مساحة حرة

الحزب.. مؤسسات أم جماهير؟

اليوم تواجه الأحزاب التي نتجت عن حركة التحرّر الوطني العربيّة والعالميّة تحديات صعبة، ولا شكّ في أنّ هذه المواجهة أرخت بظلالها القاتمة على المشهد الحزبي في المنطقة والعالم خاصّة على الأحزاب اليساريّة، والوطنيّة التقدميّة.

وإذا كان من الواضح أنّه ينبغي على الحياة الحزبيّة، والعمل الحزبي، وجماهير الأحزاب وكوادرها ومؤسّساتها وأهدافها في هذا القرن أن تختلف عمّا كان الأمر عليه في القرن الماضي، إلا أنّ الظروف الراهنة التي يرزح تحت وطأتها المجتمع الدولي وأغلب شعوب الأرض ولا سيّما في وطننا العربي تجعل الواقع مناسباً لإنتاج حركات تحرّر وطنيّة وعالميّة جديدة أو متجدّدة، لأنّ هذه الظروف اليوم تكاد تشابه في وطأتها الظروف التي عانت منها الشعوب في القرن الماضي ودفعت بها إلى النضال من أجل التحرّر والتقدّم والثورة على الهيمنة والتخلّف والاستعمار، وإلى تشكيل الأحزاب.

فالامبرياليّة اليوم في طورها الوحشي، ومعها في الطور نفسه الصهيونيّة والرجعيّة العربيّة وأقرب شاهد إعلان ترامب أمس الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران ومسارعة الكيان الصهيوني والرجعية العربية وحيدَيْن إلى تأييد الإعلان.

هذا الطور الوحشي لإرهاب الدولة المعولم العابر الجوال الذي تضطلع الأطراف الثلاثة بدعمه وتشغيله واستثماره يتطلّب من القوى الحيّة في شعوب الأرض تجديد وتفعيل حياتها السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وفي هذا مهام كبرى ملقاة على عاتق الأحزاب والمنظّمات الشعبيّة والنقابات المهنيّة لتعزيز بنية المجتمع والدولة وتماسك الوطن والمواطنين في إطار الوحدة الوطنيّة والعيش المشترك والحوار والتفاعل والتلاحم مع سائر القوى والتيّارات والفعاليّات الوطنيّة لمواجهة هذا التوحّش وبناء عالم جديد أكثر عدالة وإنسانية.

ولطالما نهضت الأحزاب الوطنيّة والمنظّمات الشعبيّة والنقابات المهنيّة بدور فاعل في ترسيخ الاستقلال والسيادة والاستقرار والتقدم والدفاع عن الوطن والشعب ضد القوى المعادية من خلال توطيد صلة هذه الأحزاب والمنظّمات والنقابات مع الجماهير.

< لكنّنا اليوم نواجه مشكلة جديدة معاصرة لم تعدْ معها الجماهير تستطيع أن تحافظ على كتلتها الصلبة المعهودة سابقاً بسبب الشروخ، وضعف المنَعة التي فرضتها العولمة وثورة الاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي والاستهداف بالتضليل الإعلامي ومراكز الأبحاث واستطلاع الرأي الوظيفيّة المخاتلة، ما جعل رهان الأحزاب على تماسك الجماهير أمراً لم يعدْ يسيراً كما مضى، بل يحتاج هذا الرهان إلى وسائل عمل حزبي أكثر تجديداً وديناميكيّة وبراغماتيّة، وهذا تحدٍّ تعرف مصاعبه الأحزاب العقائديّة في زمن ضعُفت فيه الصلابة الإيديولوجية.

وللجماهير المنظمة دور أساسيّ في قوّة العمل الحزبي، بما ينعكس إيجابيّاً على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بحيث يتمكّن الحزب من أن ينجح في خدمة القضايا الوطنيّة الكبرى.

< ومن جهة ثانيّة فمسألة الجماهير مسألة ليست سهلة، والبحث فيها مثار اجتهاد وخلاف، فهناك فروق في العلوم الإنسانيّة بين مفهوم الجماهير ومفهوم الشعب، كما يوجد هناك فروق بين مفهومي الشعب السياسي، والشعب الاجتماعي، وعلى المؤسّسات الحزبيّة أن تتفهّم هذه الفروق وأن تبني عليها في عملها الحزبي لتنفيذ استراتيجيّة الحزب المرحليّة، وأهدافه الأساسيّة «الكبرى».

ولا ضيرَ في الاعتراف بأنّ مؤسّسات الحزب وجماهيره هي ثنائيّة، وليست كلّاً واحداً، ولا ضيرَ أيضاً في الجواب على سؤال أيهما أولى بالاهتمام مؤسسات الحزب، أم جماهيره؟ وهل من الضرورة أن تكون العلاقة عضويّّة بين الطرفين؟ ولا سيّما أنّه من المستقر وجود صورة سلبيّة – في بعض الأحيان – متشكّلة بين الجماهير عن العمل الحزبي مقترنة بالريبة والتوجّس، خاصة أنّه ليست كل ممارسة باسم العمل الحزبي تعبّر بالضرورة عن استراتيجيّة الحزب الحقيقيّة.

< ومن جهة ثالثة فإنّ لجوء الحزب إلى توطيد حضوره بين الجماهير من خلال المنظمات الشعبيّة والنقابات المهنيّة يجب أن يقترن بضرورة التفريق بين عمل الحزب وعمل المنظّمات والنقابات على أساس من الفرق بين مصلحة التنظيم السياسي، ومصلحة الجماهير الاقتصاديّة والاجتماعيّة. فعلى الحزب ألّا يملي سياساته بشكل تدخّلي سافر يؤدي إلى خضوع المنظمات والنقابات، بل إلى ارتباطها الطوعي الذي يؤدي إلى الانسجام مع مبادىء الحزب وأهدافه واستراتيجيّته، وحين يحدث خلل في هذه العلاقة تختلط النقابيّة السياسيّة بالنقابيّة المطلبيّة، ويكثر الاهتمام في المؤسّسات الحزبيّة بالقضايا الخدميّة على حساب القضايا الفكريّة والتنظيميّة، كما أنّ ممارسة الديمقراطيّة المركزيّة في مؤسّسات الحزب تختلف تماماً عنها في المنظمات والنقابات.

< ومن جهة رابعة فحزبنا اليوم بمؤسساته وجماهيره – جماهير الشعب – مطالب أن ينهض بمهام بناء المجتمع الوطني والعربي الجديد، وهو قادر على أن يضطلع بهذا المطلب الملحّ بسبب المؤامرة الكبرى الراهنة على مصالح الشعب وقضايا الوطن والأمة، وهذا ما يتطلّع إليه ويطلبه الشارع الوطني والعروبي، حيث تتسع دائرة الرأي الشعبي التي ترى أن البعث اليوم ضرورة وطنية وعروبية وإنسانية لا منافس لدوره في هذا الواقع الصعب.

في هذا المعترك المصيري الصعب توطّدت علاقة مؤسسات الحزب بالجماهير، وهذا لا يعني غياب الحاجة الماسّة إلى المراجعة النقدية، كما لا يعني أن البعثيين متفقون على أن الاهتمام بالمؤسسات أو بالجماهير هو بالأولويّة نفسها.

نقول هذا ونحن نقرأ من بعض ما نقرأ: هل شاخت أفكار البعث؟، وهل قوة البعث في ضعفه الإيديولوجي؟، وما جدوى عودة الشيخ إلى صباه؟،… إلخ.

 

د. عبد اللطيف عمران