مساحة حرة

تمارين سوريّة

يبقى القول: إن الوطن الذي تعرفنا عليه كالسياح تماما و أخذنا لأنفسنا صور فوتوغرافية ثمينة بين ربوعه و قرب اعمدته الرخامية وشلالاته المنهمرة ،لن يتسنى لنا ان نتعرف عليه كما كان مرة أخرى، حالنا في ذلك كحال السياح الذين هجروه بسبب الحرب، اللهم إلا في تلك الصور، في حال نجت من حرائق القلب والحرب طبعا، أو في ما تسعفنا به ذاكرتنا وشاشاتنا المحلية من لقطات لربوعه المقطعة الأوصال الآن!

هل الموضوع مؤلم؟!

– بت واثقا من كون جميع المشروبات الكحولية وغيرها من مذهبات العقل، من اختراع ستنا “حواء”!

– عجزت وقهرني عجزي، بأن أجد نعتا مناسبا للحرب السورية، قيل في هذه الحرب، صفات ونعوت وتشابيه وتصاوير وتخيلات وتهيآت وأضغاث كلام، وأضغاث أحلام، وهذيانات، وغثيانات، كما لم يقال في أي خطب جلل وقع في التاريخ وجرت الألسن على ذكره والهجر به، من حروب وكوارث بكافة أنواعها، طبيعية، بشرية، إنسانية، ما ورائية، مابعد بعد أمامية، لا حول ولا قوة، لا هوادة… إلخ.

يقال بالمحكية عن الفتاة ذات القد الممشوق “جسمها لبيس” بمعنى: كل ما ترتديه يليق بها، حتى لو ارتدت جلد تمساح، أو ذيل سمكة. كذا هذه الحرب “جسمها لبيس” تليق بها كل هلوسات الصفات والنعوت، ولكن كلمة “حرب” بكلاسيكيتها، ضيقة جدا عليها، حتى أنها لا تعادل دخول جورب حتى كعبها.

– وجهها ألطف و أسمح من تفاحة حمراء، بيد فتاة صغيرة .. هكذا بدت وهي تحتمي ذات برد بمعطفي من نداف الثلج الصغير، صوتها كان خفيضا، فالأنفاس التي ترددت في صدرها، تلكأت وتباطأت على عتبات فمها المشغول بالسنارة قبل أن تنطق، لتخرج الكلمات وكأنها سيدات صغيرات خجولات هدهن السهر، شفتاها شاحبتان من البرد قليلا، تستطيعون القول: أن الورد ترنح فوقهما قبل ان ينتحر.

– مرة أخرى يخادعني الحب، يتلطى لي في أكثر الأماكن غرابة.

– أعلم أني أغلق أبوابا عديدة، أغلقها دون ادنى رغبة بالالتفات أليها أو حتى بالندم على ما كان يمكن أن تصنعه لي إن تركتها مواربة، لكني لا احفل بها، وأعرف جيدا أن الحياة لا تمنح فرصا ضائعة، ولا تعيد حبيبا غائبا، ولا ترتق جوربا مثقوبا، أعرف هذا، فلتكفي إذا عن شحذ همتي، ولتصمتي قليلا، أريد أن استمع لهذا العالم كيف يصخب خارجي، مكتفيا بالمشاهدة.. مللت يا امرأة.. مللت.

ثم من وضع برأسك وهم إنني استطيع أن أصنع فرقا؟ من يقدرون على ذلك.. ماتوا يا امرأة.. ماتوا.

– الحروب: آواني الله لولائمه التي لا تنتهي.

– تلك الدروب الوعرة التي نحتتها قلوب ريفية طيبة لم تحتمل زحام باب توما، وضجيج الحميدية، وانكماش الميدان على فساحته.. تلك الجبال التي كانت تتهيب الضواري الخوض في عتمة أخاديدها الموحشة، عمّرها رجال ونساء وأطفال، نقلوا قراهم بمخيلتهم وبنوها على صورتها، لم يخطر في بالهم يوماً أن تصبح وطناً فارهاً في أعين الآخرين، وأن يكونوا مواطنين يسكنون هكذا، وصدفة في رقم.

دون صناديق بريد تخبئ رسائل من لا أحد..دون كسرة ولو مستدقة كشفرة من خصوصية، كانت تهبها لهم السماء والجبال والأنهار، دون وجل من موت محقق في كل خطوة فوق ماء وكهرباء يتمازجان، وربما مصادفة لا يدري أحد كنهها، لا يقبل الماء ببدائيته أن ينقل السيدة الكهرباء المتغطرسة، ربما لهذا السبب ولآلاف غيره ولدوا، وفي وجدانهم ليست المدن إلا عبئاً على قلوبهم المريضة بالقرى والحنين المصوّب كطلقة إلى مستقبل لا يشغل بالهم، إلا أن الموت هو المطلق، وما هم إلا أكيد يصفق للمطلق وكأنه أغنية شعبية “ويلاه يا أم الزلف ويلاه يا بنيّة ويا نار قلبي اشعلي ما تطفيكي ميّة “*.

* مطلع لأغنية شعبية لفنان سوري رائع “عادل خضور”

– من مكرِ الربِ على العاشقِ، ومن نوائبِ الدهرِ على قلبهِ الضعيف، أن يبُتلى بحبِ من لم يرى ولم يشم ولم يذق ولم يضم.

أن يَرمي القدر نبلةً لا تخيب إلى دَلّالهِ ـ وهو يستمعُ إلى صوتِ معشوقهِ بجسمِ يتكسر على حالهِ، إلا أن يداه عندما يمدهما، تضمان الهواء بصدر صار من حطب.

كيف لألهٍ أناديه في نجوائي ” لهي”.. أن يفعل بي هذا؟

لست يوسفك ولا ابراهيمك ولا حتى مريمك، لتورثني دم أيوب الناشف من الصبر، وتبتليني ببياض عيني يعقوب، وتختبر يفاعة نبوتي بكتابك.

ولو أنني عبدكَ حقا كما ترضى، لما فعلت بي ذلك، إلا أنني اخلصُ من شق ثوب عتمتك بغسق صوته وبدد وحدتك بنحيبه الطويل المتقطع، وهو ينادي: هيه أيتها الحياة التي مرت جانبي، ألا تستمعين إلى عوالمك حتى تلك التي لا تقيمين لها وزنا ، كيف تصطخب بجسدي، وتضرب جدران قلبي، كأعمى سقط في الشك؟

قالت لي هي التي لم تنظرها عيناي إلا في الصور، إنها كانت على شمالي عندما واعدت غيرها، وأنها كانت عن يميني عندما فارقت أحبتي، وأنا أصدقها فلطالما شعرت بأن يدي تسري بعروقها برودة خفيفة، ولطالما سمعت دموعي مسكوبة في صوتها.

تمّام علي بركات