اخترنا لكرأي عام

«داعش» والمناهج الجديدة: السوريون «يقصفون» عشوائيّاً

انفتحت شهيّة السوريين على انتقاد التغييرات التي أجريت أخيراً على بعض المناهج التعليمية، وتحوّل الانتقاد إلى «قصف عشوائي» بتأثير عوامل عدة، مثل البروباغندا، واهتزاز الثقة بين الشارع والحكومة، واستناد جزء كبير من الانتقادات إلى معطيات خاطئة. الوزارة المعنية التزمت الصمت حتى الآن، مع ما قد يعنيه ذلك من التعامل مع القضية على مبدأ «أذن من طين وأذن من عجين» بدلاً من انتهاز الفرصة وتحويل الزوبعة نقاشاً وطنيّاً يتناول العملية التعليمية بأكملها

المناهج التعليميّة حديث الساعة في الشارع السوري. لم يتطلّب الأمر أكثر من زوبعة انطلقت عبر وسائل التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام، ليتربّع الواقع التعليمي على رأس المواضيع التي يتداولها السوريون واقعيّاً وافتراضيّاً، ويتكرّر سؤال «ما الذي يدرسه أبناؤنا؟» على الألسن. ومن المسلّم به أن قضية المناهج وتعديلاتها هي قضيّة بالغة الأهميّة، وينبغي أن تتحوّل إلى ساحة «نقاش» وطني مفتوحة باستمرار، ولو كان الانخراط في تداول هذه القضيّة قد تحول في خلال الأيام الأخيرة إلى ما يشبه العدوى.

الشرارة انطلقت من انتقادات وُجّهت إلى عدد من أغلفة الكتب الجديدة، لتأخذ سريعاً شكلاً أشبه بـ«القصف العشوائي» طاول كلّ ما يتعلّق بالمسألة التعليميّة. سرت أحاديث وراجت منشورات و«مقالات» تؤكّد تارة أن المناهج الجديدة حفلت بفكر ديني متشدد، وتشير تارةً أخرى إلى «تحريف في التاريخ» و«تدنّ في المحتوى».

ومن غير تدقيق تم تداول صور لفقرات قيل إنّها مأخوذة من المناهج الجديدة كأمثلة على ما تقدّم، قبل أن يتّضح أن بعض تلك الفقرات يعود إلى مصادر أخرى، من بينها مناهج معتمدة في دول عربيّة، وأخرى فرضها تنظيم «داعش» في مناطق سيطرته. وعلى نحو مماثل لما يحصل في حالات كهذه، انخرط كثيرون في توجيه الانتقادات وتبنّي «الأمثلة» من دون تدقيق في المصادر، أو حتى اطلاع على المناهج. في مقابل ذلك، تحوّلت المعمعة إلى مناسبة لتسليط الضوء على «مشكلات» موجودة في المناهج فعلاً. حضرت في النقاشات أفكار تبدو أقرب إلى «أحلام» بـ«علمنة المناهج» وحذف مادة الديانة منها، الأمر الذي يتجاوز بطبيعة الحال قدرة وزارة التربية، ويرتبط بمعطيات تتعلّق بـ«هويّة إسلاميّة» تم تكريسها عبر عقود في معظم ما يتعلق بالقوانين والأحوال الشخصية والدستور… إلخ.

التغيير ليس شاملاً

خلافاً لما تم تداوله على نطاق واسع، لم يطل التغيير كل المناهج التعليميّة، بل «اقتصر هذا العام على مناهج الصفوف الأول، والرابع، والسابع، والعاشر»، وفقاً لمدير المركز الوطني لتطوير المناهج دارم طبّاع. يقول طبّاع لـ«الأخبار» إنّ «العام القادم سيشهد انتقال التغيير إلى الصفوف الثاني والخامس والثامن والحادي عشر، وصولاً إلى مناهج الشهادات، بعد أن تكون المناهج قد جُرّبت وتم تطوير طرائق قياسها وتطوير البيئة الصفية، وتمرّس المدرسون». كذلك يؤكّد أن الهدف من العمليّة «الوصول إلى مناهج مطوّرة وفق مهارات القرن الحادي والعشرين، مع اعتماد أربعة مبادئ: تقدير الذات، المواطنة، التواصل، والتنمية المستدامة».

… و«الديانة» ليست جديدة

من بين المعلومات التي سرت حول المناهج الجديدة، تحدّث البعض عن «إدخال التربية الدينية إلى الصف الأول، في مقابل إلغاء التربيتين الفنيّة والموسيقيّة». يؤكّد طبّاع أن هذه المعلومات غير دقيقة، ويقول «التربية الموسيقية والفنية لم تلغيا من الصف الأول، على العكس هما موجودتان، وتحظيان باهتمام خاص». يوضح أيضاً أنّ «مادة التربية الدينية (الإسلاميّة، والمسيحيّة) كانت موجودة أصلاً في مقرّرات الصف الأول، لكن من دون كتب. لاحظنا أن هذا الأمر فتح المجال أمام بعض المدرسين لإدخال تفاصيل لا علاقة لها بالمنهاج، فتمّ اعتماد كتابي الديانة لتنظيم العملية التربوية والتعليميّة وضبطها». وباستعراض لبعض كتب التربية الإسلاميّة المُعتمدة، يتضّح خلوّها من الفكر التكفيري (خلافاً لما يشاع) علاوة على وجود دروس تتناول أهمية الحوار والأسرة والمجتمع وحقوق الانسان. (لا يعني هذا محاولة تقديم حكمٍ إيجابي أو سلبي على المحتوى بعمومه، لأنّ الأمر يحتاج إلى متخصّصين ونقاشات بطبيعة الحال).

أغلفة وقصائد وتاريخ

أخذت أغلفة بعض الكتب موضع الصدارة في السجال الدائر، حيث عدّها المنتقدون «أغلفة بشعة وظلاميّة»، ووصل الأمر إلى حدّ القول إنّها «داعشيّة وعرعورية». وكانت دوافع المنتقدين وجود غلاف عليه رسمٌ لتمثال ملتحٍ، وغلاف آخر يحوي رسماً لفتاتين محجّبتين (قد يشكل عزاءً للمنتقدين إذا عرفوا أن غلاف أحد كتب المنهاج عليه رسم لفتاتين سافرتين). وتجدر الإشارة إلى أن أغلفة الكتب قد اعتمدَت لوحات لفنانين تشكيليين بارزين: نذير النبعة، أدهم إسماعيل، لؤي كيالي، وفاتح المدرس.

أمّا التمثال الذي أثار حفيظة البعض فهو تمثال إيكو شاماغدان، أبرز ملوك مملكة «ماري». كذلك صبّ المنتقدون غضبهم على قصيدة «الفيل يستحم» التي قيل إنها موجودة في منهاج اللغة العربية للصف الثالث (وقال البعض الرابع)، وهي في الحقيقة «نشاط غنائي» مُدرج في كتاب التربية الموسيقيّة للصف الأول، الذي يضم أيضاً أنشطة مثل الاستماع إلى موزارت، وأناشيد لشعراء آخرين على رأسهم سليمان العيسى الحاضرة قصائده في كتب اللغة العربية كما في كتب التربية الموسيقيّة، خلافاً لما قال بعض المنتقدين الذين «ترحّموا على أيّامه». كذلك تناولت بعض الملاحظات «سعي المنهاج إلى تكريس معلومة خاطئة عن حضارات المنطقة، والقول إنها جاءت جميعاً من شبه الجزيرة العربية».

طفولة وحقوق

لدى استعراض بعض المناهج، تحضر تفاصيل تستحق الإشارة إليها، من بينها عدم وجود أي فعل أمر في الأنشطة المطلوبة من التلاميذ في كتب المرحلة الأولى (من الصف الأول إلى السادس)، واعتماد صيغٍ مثل «أرسمُ وألوّنُ» بدلاً من «اُرسم ولوّن». كذلك تحضر في بعض الكتب دروس تتناول حقوق الطفل، وحقوق الانسان، وثقافة الحوار. ويقول دارم طبّاع لـ«الأخبار» إنّ الأنشطة المُدرجة «تحاول التركيز على التعلم التعاوني من خلال مناظرة وحوار وتفعيل، بغية رفع مهارات التفكير بعيداً عن الببغائية».

«البعث» حاضر

رغم خروج مصطلح «الحزب القائد للدولة والمجتمع» من التداول على صفحات الكتب، غير أنّ تجليّات فكر البعث ما زالت حاضرة في كثير من المواد. وعلى سبيل المثال، تركّز المناهج على «عروبة الإسلام»، كما تحظى «عروبة سوريا» بمركزيّة كتب التربية الوطنية في كل الصفوف، علاوة على قضايا الوحدة والمصير المشترك وما إلى ذلك. أيضاً تحظى المنظمات التي اشتهرت بأنها «رديفة لحزب البعث» باهتمام خاص، مثل منظمة «اتحاد شبيبة الثورة»، من دون القول إنها «رديفة للبعث». كذلك تحضر مفارقات عدة في كتب التربية الوطنية تحديداً؛ فمثلاً يختصر كتاب التربية الوطنية للصف الثامن مشكلات المجتمع السوري باثنتين، البطالة والمواصلات! (الوحدة الأولى، الدرس الخامس، طبعة 2016 – 2017). علاوة على ما تقدّم، يبدو لافتاً الحرص على حضور «البعث» في الثقافة البصريّة لدى الطفل من خلال اختيار صورة لصحيفة البعث دون سواها، في نشاط يتناول قراءة الصحف (كتاب اللغة العربية، الصف الثاني، طبعة عام 2016 – 2017، صفحة 77).

حتى الآن، لم تقدّم وزارة التربية أيّ إيضاح. وحاولت «الأخبار» التواصل مع وزير التربية هزوان الوز لكنها لم تفلح، وبقيت عشرات المحاولات الهاتفية من دون جواب، لا من مكتبه ولا المكتب الصحافي في الوزارة. وعلمت «الأخبار» أن هناك نيّات لعقد مؤتمر صحافي يشارك فيه الوزير الوز وعدد من المشرفين على وضع المناهج وتطويرها، بغية تقديم كل الإيضاحات اللازمة. غير أن أيّ إعلانٍ رسمي لم يصدر في هذا الخصوص بعد. في المقابل، سُجّلت محاولة لتحويل المناهج إلى موضوع نقاش دعت إليه مؤسسة «جناح أزرق» الأهلية بالتعاون مع الجمعية لسورية للبيئة، وستعقد أولى جلساتها يوم السبت المقبل في الحديقة البيئية مقابل قلعة دمشق.

المسوّدات كانت في متناول الجميع

من بين الانتقادات التي طاولت قضية المناهج برز اتّهام وزارة التربية بالعمل بشكل منفرد، وعدم طرح المناهج للنقاش قبل اعتمادها. وبالعودة إلى الموقع الرسمي للمركز الوطني، يتضّح وجود مسودات بعض الكتب مطروحةً للنقاش (http://nccd.gov.sy/ar). يؤكد مدير المركز لـ«لأخبار» أنّ «كل المسودات وضعت في متناول الجميع، واستقبلنا آراء وملاحظات وأجرينا تعديلاتٍ وتصحيحات اعتماداً عليها». ويضيف «بدأنا مشوارنا بإقامة ندوة مواطنة بمشاركة علماء وباحثين وأدباء وفنانين ومجتمع محلي، وذلك ضمن سعينا لسبر متطلبات التغيير. كذلك أجرينا مشاورات مع عدد من دول المنطقة من خلال منظمة يونسكو، وقمنا بزيارات واطلعنا على تجارب ومناهج». يرى طبّاع في الزوبعة المثارة «فرصة طيبة لتطوير العمل، ونتمنى استقبال المزيد من المقترحات والملاحظات». ويقول «ربما ما زلنا نعاني في مجتمعنا من مشكلة عدم تقبّل الرأي الآخر بشكل فعّال، ونرجو أن ننجح في تجاوز هذه العقبة. نحن منفتحون، وأظن أن ما حدث شيء طبيعي، وهو أحد انعكاسات أي عملية تغيير، ومهمتنا محاولة تحويل الزوبعة إلى مكتسبات تنعكس على تطوير المناهج». ويضيف «لسنا في صدد نقل معرفة، المعرفة موجودة، نحن نحاول أن نطوّر مهارات، ومن بينها مهارة التواصل لدى المتعلّم والمعلّم، ولدينا نحن في المركز طبعاً».

 

البعث ميديا || نقلا عن صحيفة “الأخبار” اللبنانية