مساحة حرة

فاعلية الحضور السوري في المجتمع الدولي

من الطبيعي أن تستشيط غضباً الولايات المتحدة وبريطانيا والكيان الصهيوني لترؤس سورية مؤتمر الأمم المتحدة لنزع السلاح، وأن تحتفي قنوات سفك الدم السوري بردّة الفعل الهزيلة هذه.
بالمقابل، من الطبيعي أيضاً أن يكون هذا الغضب مثار فخر لسورية بتاريخها العريق وحاضرها الواعد، فيحق لنا أن نفخر بهكذا خصام ونزال مع قوى الشر والاستعمار والهيمنة والاستيطان والاحتلال، فمَنْ من شعوب الأرض لا يستنكر السياسات الوضيعة سيّئة الصيت لهذه الأنظمة المتوحّشة ذات التاريخ الاستعماري الإبادي البغيض القديم والمتجدّد ؟!.

في معمعان هذا الواقع، وفي هذا المعترك المصيري الوطني والعروبي كانت مداخلات مندوبي سورية في مؤسّسات المجتمع الدولي دروساً مهمّة ذات دلالات حيّة وغنيّة في التاريخ المعاصر في زمن صارت فيه السياسة الدولية ألعوبة ومسخرة وفضائحية، زمن «سيطرة التافهين» المؤقّت.

سورية… لطالما كانت عضواً مؤسّساً في الأمم المتحدة، وفي المجتمع الدولي ولا سيّما في منظوماته الهادفة إلى تعزيز الأمن والاستقرار الدوليين، فالجمهوريّة العربيّة السوريّة لم تغبْ يوماً فاعليّة عضويتها وحضورها الوطيد في أعلى مؤسّسة من مؤسّسات المجتمع الدولي وهي مجلس الأمن، ولم تتمكّنْ همروجة «أصدقاء الشعب السوري» البائسة والمنحسرة فالمتلاشية من تغييب هذا الحضور الفاعل على الرغم من الظلم والاستهداف اللذَين تعرضت لهما سنوات طويلة. فكان اعترافها أمس بجمهوريتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وإقامة علاقات معهما تأكيداً على استمرار هذا الدور.
بالأمس كانت الرئاسة السوريّة لمؤتمر الأمم المتحدة لنزع السلاح بمثابة اعتراف طوعي من جهة لأغلب الدول، وقسري من جهة ثانية لدول الشرّ والعدوان، بصوابيّة الموقف العربي السوري، وبقدرته على انتزاع الحق والحقوق الوطنيّة والسياديّة، ولا سيّما حين اقترنت هذه الرئاسة بجودة الأداء، وبالمهنيّة والموضوعيّة والأخلاقيّة وبالقدرة على تحمّل المسؤوليّة، ما أفشل المحاولة البائسة للتشويش على رئاسة المؤتمر وعلى مداولاته… وفي هذا غيض من فيض الردود على بؤس ما لم يعدْ ممكناً تسميته بـ «الجامعة العربية»..
هذا من جانب، أما الجانب الآخر والمهمّ، بل الأهم فهو:
إنّ طرح مسألة «نزع السلاح» مفهوماً وممارسة في التاريخ المعاصر يقترن بمفارقات مريرة ملأى بالمراوغة وازدواجية المعايير، وبسياسات الهيمنة والتفرّد، وبأحاديّة القطب، وبمنعكساتها القاتلة على عدد من شعوب الأرض، فعن أيّ نزع سلاح تتحدث الولايات المتحدة وبريطانيا وذيولهما البغيضة والشريرة؟!.
مؤتمر نزع السلاح هو منتدى تفاوضي متعدّد الأطراف تأسّس عام 1987 ليثير قضايا حساسة تُحال من خلاله إلى المحافل الدولية المختصة، وقد مرّ تاريخ هذا المنتدى بعدّة صيغ واتفاقات وإشكالات، وانسحاب دول منه منذ بدأ التفكير فيه سنة 1932 في جنيف لدراسة الحد من الأسلحة والتسليح، ولاتزال مسألة نزع السلاح إشكالية كبيرة حتى اليوم، فمنذ عام 1933 اعترض هتلر على طروحات المؤتمر وعرقل خطواته لأسباب معروفة تتصل يومها بالتوجّه النازي.
اليوم لدينا نازيّة جديدة «أمريكية» بذراعين صهيونيّة ورجعيّة عربية تتاجر بوحشيّة بسفك الدم، وبدمار الشعوب والمجتمعات والدول والمؤسّسات والحكومات. فالولايات المتحدة الأمريكية مارست وتمارس الضغوط لنزع السلاح من العراق وليبيا وإيران وسوريّة وكوريا الديمقراطية… في الوقت الذي تبيع بأساليب المخاتلة والضغط والابتزاز في السنة الواحدة ما يزيد عن 700 مليار دولار سلاحاً للسعودية والإمارات وقطر فقط، وتقدّم للكيان الصهيوني أفتكَ أنواع الأسلحة.. فأيّ نزع سلاح هذا، وأيّ مبادىء وأخلاق وموضوعية لدى الإدارة الأمريكية وهي تكذب عن قصد المُبتزّ، ووعي المجرم حين تعترض على رئاسة سورية للمؤتمر؟!.
نزع السلاح في السياسة الأمريكية ليس في سبيل التفاوض لتحقيق السلام والأمن والاستقرار الإقليمي والدولي أبداً، بل هو سياسة تستهدف حرمان الشعوب والدول من حقّها في السيادة وفي الدفاع عن نفسها، سياسة ازدواجية المعايير. فهي تسلّح بمبالغ طائلة حين تشاء ومن تشاء، وتتغطرس وتستبد لنزع السلاح حين تشاء وممن تشاء.
الواقع يبيّن أن الدول التي ضغطت الإدارة الأمريكية لنزع سلاحها لم يقترن هذا النزع بالسلام والاستقرار بل بالحروب والدمار على نحو ما يحدث في ليبيا والعراق، حيث صارت الأمور إلى توتر وخراب واقتتال داخلي لخدمة مشاريع مضادة للوطنية وللاستقرار الإقليمي والدولي.
كما يبيّن هذا الواقع أن الإدارة الأمريكية لم تعدْ تكتفي بحروبها ذات الأجيال المتعددة بالسلاح التقليدي لا من الجيل الأول حتى الرابع، بل هي تلجأ اليوم إلى نوع من الأسلحة أشدّ فتكاً من الأسلحة النارية كالفتن الداخلية، وإثارة العصبيات، والعقوبات، وتحطيم المجتمع والتآمر على الوحدة الوطنية والعيش المشترك وعلى السيادة، والحق في الحياة الإنسانية من خلال اختراق الجبهة الداخلية والعبث بوحدة المجتمع وبتآلف مكوناته، فهذا السلاح الخبيث هو الذي يصعب انتزاعه.
في هذا جميعه قدّمت سورية للبشرية وللمجتمع الدولي – ولا سيما خلال سنوات الأزمة – مواقف شاهدة وشامخة تنتصر فيها لحقّها ولحقّ الشعوب في الأمن والاستقرار والسلام والازدهار. لذلك ستبقى سورية – كما كانت – عريقة مجيدة تختزن على تعاقب أجيالها بطاقتها الكامنة أملاً كبيراً ومستقبلاً واعداً.

د. عبد اللطيف عمران