مساحة حرة

هجمات بروكسل وثمن النفاق الغربي!!

أحدثت هجمات بروكسل الإرهابية المروعة زلزالا ضرب أوروبا في العمق وجعل حكوماتها تترنح وتفقد توازنها باحثة عن الأسباب والمسببات لتكرار هذه الضربات الموجعة وتفاقمها فالتفجير المركب الذي استهدف العاصمة البلجيكية وسقط بنتيجته ثلاثمائة بين قتيل وجريح في تفجير مزدوج في مطار بروكسل وتفجير ثالث في محطة القطارات المركزية وسط العاصمة قرب مقار حكومية وأوروبية حساسة، فتح نقاشاً جديا ومعمقا للغاية لدى النخب الأوروبية ومؤسساتها الأمنية، حول أسباب تجذّر الإرهاب ومصادر قوته، ولاسيما بعد ان أعلن تنظيم داعش مسؤوليته عن تنفيذ هذه العمليات وأشارت معظم الآراء حتى الآن  إلى أن ما جرى وما قد يجري  مستقبلا هو نتيجة سياسات الحكومات الغربية المنافقة والساقطة أخلاقيا أمام إغراءات المال السعودي والخليجي .

وبغض النظر عن الحالة السورية والعراقية فقد انتشر الإرهاب وتشظى من خلال الأعمال والهجمات الإرهابية التي ضربت في عشرين دولة على الأقل ووصلت إلى أكثر من خمس وسبعين هجمة معظمها وأشدها دموية تركزت في أوروبا وخاصة في فرنسا وبلجيكا بعد أن أضحت هاتين الدولتين منذ سنوات طويلة مركز استقطاب وانتشار للتيارات والجماعات الإرهابية التي تحمل الفكر الوهابي التكفيري نتيجة المال السعودي والخليجي الذي اشترى تمرير السلطات الغربية على أعلى المستويات لهذا التطرف وتشكيله بيئات حاضنة هناك ما لبثت أن تحولت إلى خزان لتصدير الإرهابيين إلى الخارج ومرتع لتنفيذ العمليات الانتحارية في الداخل عندما يطلب منها ذلك .

لقد وصف احد الصحفيين الوضع في عاصمة الاتحاد الأوروبي قائلا: عندما تترجل في محطة القطار في العاصمة البلجيكية بروكسل، تشعر لبرهة بأنك في قندهار، أو في مدينة يسيطر عليها تنظيم “داعش “.. أحياء بلجيكية بكاملها ممهورة بختم الوهابية إن لجهة طريقة اللباس أو ظاهرة الخمار الأفغاني الذي يسمى في أوروبا “ببوركا أفغاني او قندهاري ” .

يضاف إلى ذلك كله أن هناك عددا كبيرا من المساجد التي بنيت بالأموال السعودية والخليجية ويمسك بها دعاة من الوهابيين المتطرفين المشبعين بالحقد والكراهية لكل الآخرين يبثون سمومهم ليلا ونهارا ليحولوا الشباب المسلم هناك إلى قنابل موقوتة فضلا عن انتشار مشايخ الوهابية الذين  يمارسون دعوتهم في الشوارع العامة وفي الأسواق تحت اعيين رجال الشرطة وبعلم السلطات البلجيكية وإذنها .

ويعلم كل من يتجول في المدن الأوروبية أن عدد الدعاة السلفيين في الطرقات يفوق عديد أتباع طريقة شهود يهوه ويتفوق الوهابيون على أتباع شهود يهوه بالإمكانيات المادية التي تغدقها السعودية وقطر وبعض المراكز تدعمها جمعيات إماراتية محسوبة على العائلة الحاكمة ، ما يشير إلى أن كل ما ذكرنا نتاج سياسة مقررة سلفا ومتبعة، وليس له علاقة بموضوع التسامح وحرية التعبير.

وللعلم إن  أتباع التيارات التكفيرية الوهابية في أوروبا، يتباهون بنفوذهم الكبير في بلجيكا والذي ليس له مثيل في أوروبا، وتقع بعض مراكز الجمعيات الوهابية على مسافة مئات الأمتار من مركز حلف شمال الأطلسي في بروكسل، كما وصل بعض تجار الوهابية إلى مداخل مركز الاتحاد الأوروبي في العاصمة البلجيكية، ويمكنك قبل الدخول إلى مركز الاتحاد الأوروبي، احتساء القهوة في مقهى يرتدي مالكه الجلباب القصير وحذاء اديداس، وبعض الوهابين الأفغان افتتحوا مؤخرا مخابز في المحيط القريب من مباني الاتحاد الأوروبي .

معروف انه بعد احتلال أفغانستان والعراق  قد ساءت العلاقة بين السلطات البلجيكية والتيار الوهابي في بلجيكا، إلى أن اندلعت الحرب العدوانية الإرهابية على سورية، التي أعادت الدفء والتحالف بين الطرفين، وكانت بروكسل وبعض المدن البلجيكية في القسم الفرنسي خاصة مركزا مهما لإرسال المتطوعين لحرب الدولة السورية، وكانت عمليات النقل تتم برحلات مباشرة بين بروكسل ومطار عسكري قرب اسطنبول قبل نقل المتطوعين إلى غازي عنتاب لتدريبهم أسبوعين ومن ثم إرسالهم بإشراف المخابرات التركية إلى الداخل السوري، وكانت جبهة النصرة الوجهة الأساس والمفضلة لهؤلاء قبل ظهور داعش الذي أصبح وجهة لكل الإرهابيين القادمين من أوروبا للقتال في سورية والعراق.

وإذا كان مفهوما إن طبيعة الإرهاب وتكويناته تحمل في طياتها حتمية ارتداده في النهاية على أصحابه ورعاته الأقربين  لكن لماذا بلجيكا عاصمة الاتحاد الأوروبي الآن وفي هذا التوقيت بالذات ؟؟

يذهب بعضهم إلى أن هناك أسبابا عديدة ومتداخلة وأسبابا مباشرة وغير مباشرة لاستهداف مركز الاتحاد الأوروبي منها:

أولا: إن أميركا لعبت الدور الكبير والأساس، في تواجد أتباع التيار الوهابي التكفيري في أوروبا بشكل عام وبلجيكا بشكل خاص منذ ثمانينات القرن الماضي في خضم الحرب الأفغانية، وكانت بروكسل مدينة استقطاب للكثير من المتطوعين للحرب ضد الاتحاد السوفيتي السابق، حيث مراكز الجمعيات الوهابية تعج بخطابات التكفير ضد الشيوعية والأرثوذكسية، كما كانت وفود “المبشرين” تسرح وتمرح في بلجيكا في قسميها الفرنسي والفلمنغي بحرية تامة، إذ أنهم كانوا يأتون من باكستان لجمع الأموال وتحريض الشباب على الذهاب إلى أفغانستان .

ثانيا: في بلجيكا وفرنسا اختلطت مافيا المال والمخدرات وتجارة السلاح مع التيار الوهابي، وأصبح أتباع الوهابية يعتمدون على هذه المافيات في تأمين السلاح والأموال وتهريب المخدرات بالتعاون مع مافيا المخدرات التركية إلى الداخل الأوروبي، ولعبت البنية التحتية للمافيا الدور الكبير في تسهيل عودة الكثير من الذين قاتلوا في سورية والعراق إلى أوروبا، واتى هؤلاء مزودين بخبرات التفخيخ والرصد والقتال، ومشبّعين بأفكار التكفير التي سرعان ما وجدت في فرنسا وبلجيكا مرتعا  لتغلغلهم الكبير يمكن لهم بعدها التنقل بعملياتهم الانتحارية إلى  كل أنحاء أوروبا.

ثالثا: تحولت أوروبا منذ فترة إلى ما يشبه القاعدة الخلفية  لتجنيد المسلحين في صفوف داعش بعد أن جرى توفير التربة الملائمة لتنفيذ الهجمات الإرهابية المحكمة والدقيقة التي ضربت مجلة شارل أدو ثم المسارح والساحات الرياضية ودور السينما في باريس والمدن الفرنسية  وواضح  أن الإرهابيين يعرفون جيدا الأماكن التي يهاجمونها في أوروبا .

 

رابعا: تيار اللاجئين الذي لم ينقطع  ومن المعروف أن داعش تستغل أزمة اللاجئين في أوروبا كوسيلة لتجنيد العملاء. في 2015 عام وصل إلى أوروبا أكثر من مليون لاجئ وبلغ الرقم منذ بداية العام الجاري 135 ألف شخص. وأزمة اللاجئين تعطي المتطرفين فرصة رائعة لتأجيج الانقسام بين الشرق المسلم والغرب على سبيل المثال تصريحات بعض الدول الأوروبية أنها ستستقبل فقط اللاجئين المسيحيين .

خامسا: تستغل داعش الانقسام السائد في الاتحاد الأوروبي، وكمثال يمكن ذكر الصعوبات التي واجهت إقرار اتفاقية اللاجئين بين الاتحاد الأوروبي وتركيا التي حصلت على تنازلات كبيرة من الأوروبيين، الذين وبعد تفجيرات بروكسل، أخذوا ينظرون بتشاؤم أكبر إلى موضوع دخول ملايين الأتراك بدون تأشيرات إلى بلادهم

وازداد الحديث في أوروبا عن العودة إلى الحدود الداخلية بين الدول الأوروبية، وهو ما قد يدق المسمار الأخير في نعش منطقة شنغين .

وأما السبب المباشر والاهم لهجمات بروكسل الدموية الفظيعة واختيار هذا التوقيت بحسب كثير من المحللين والمتابعين فهو اتخاذ البرلمان الأوروبي توصية بوقف تزويد السعودية بالسلاح وهذا ما افقد حكام المملكة الوهابية صوابهم نتيجة تورطهم في حروب كثيرة وحاجتهم المتزايدة للسلاح  حيث إنّ العملية الإرهابية الفظيعة هناك جاءت مباشرة بعد اتخاذ البرلمان الأوروبي قرار توصية بوقف تزويد السعودية بالسلاح لأنها ترتكب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية في حربها الإجرامية على اليمن، ثم كان إلقاء القبض في بروكسل على أحد المشتبه بهم في عملية باريس الإرهابية صلاح عبد السلام، فكانت الجريمة الإرهابية تلك بمثابة الانتقام والإنذار الذي يوجه لأوروبا لمنعها من اتخاذ أيّ إجراء يمسّ بالسعودية المتعهّد الأساسي للجماعات الإرهابية والمستثمرة بها أو يلاحق الإرهابيين المرتبطين بالمملكة .

على اية حال ونتيجة لنشوء ونمو وتفاقم العمليات الانتحارية وتكرارها ولاسيما بعد هجمات بروكسل، خلصت أراء النخب الأوربية إلى أن هناك عناصر ثلاث أدت لتجذر ظاهرة الإرهاب في الأرض الأوروبية تتجلى فيما يلي :

–  العنصر الأول هو المقايضة التي يجريها حكام أوروبا أمام شعوبهم بين الإفادة من أموال حكومات الخليج والمساومة على الانتهاكات التي لا تحتمل لهذه الحكومات في قضايا الديمقراطية المفقودة وحقوق الإنسان المستباحة، ما يجعل كل أوروبي كان يفتخر بما يسمّيه القيم الحضارية لبلاده يحتقر نفسه وهو يرى تقليد الأوسمة لحكام الخليج الذين يحمون الإرهاب ويمولونه والهدايا الباهظة التي يتلقاها رؤساؤهم من هؤلاء الحكام، ويرى بيع المؤسسات والمنشآت والأندية لهم بصورة تضعف الثقة بفكرة الدولة المدنية الحضارية التي تتباهى بها أوروبا.

– العنصر الثاني هو انهيار تفوق القيم الأوروبية أمام إغراء المال الخليجي عامة والمال السعودي خاصة الذي  يحمل ضمناً مقايضة الصمت عن انتهاكات الخليجيين لمعايير الديمقراطية وحقوق الإنسان بصمت خليجي عن تمييز عنصري يلحق بالمسلمين في كثير من البلاد الأوروبية، ما يجعل نوعاً من الحرب الأهلية الباردة تجري تحت سطح المجتمع في موازاة النفاق المتبادل على المستوى الرسمي والعلني بين حكام الخليج والحكومات الغربية اللاهثة وراء صفقات الأسلحة.

– العنصر الثالث هو السقوط الأخلاقي لمؤسسة الحكم في الدول الأوروبية تَكرَّس وتجلى في الحرب التي تشهدها سورية، وبدأت أوروبا تدفع ثمن نفاقها وتشجيعها خيار تسليم سورية للتنظيمات الإرهابية التي شكل المتطوعون الذاهبون بالمئات من بلدان أوروبية قوتها الضاربة، طالما يسمح ذلك بالتخلص من الدور المقاوم للدولة السورية .

لقد جرى ذلك كله بالتنسيق مع تركيا والسعودية وقطر وإسرائيل وبصفقة مشبوهة متكاملة تنطوي على ضمان بعدم تعرّض أمن أوروبا للخطر الإرهابي ، إلا أن الصفقة فشلت أمام صمود سورية وجيشها البطل وذهبت الضمانات أدراج الرياح  فارتد الإرهاب إلى صدور أصحابه ورعاته واهتز امن أوروبا من أقصاها إلى أقصاها وبدأت تدفع ثمن نفاق حكامها وسياساتهم الانتهازية الرخيصة وبكلفة دماء عالية جدا فهل من صحوة أوربية قبل فوات الأوان ؟؟

د.تركي صقر