مساحة حرة

أولويات رثة

يعتبر عالم النفس “ماسلو” -1908-1970، حسب هرمه الشهير للألويات الإنسانية، أن الحاجات أو الدوافع الإنسانية تنتظم في تدرج أو نظام متصاعد، من حيث الأولوية أو شدة التأثير، فعندما تشبع الحاجات الأكثر أولوية أو الأعظم حاجة وإلحاحاً فإن الحاجات التالية في التدرج الهرمي تبرز وتطلب الإشباع هي الأخرى، وعندما تشبع نكون قد صعدنا درجة أعلى على سلم الدوافع، وهكذا حتى نصل إلى قمته.

في قاعدة الهرم الشهير، أي وحسب الترتيب التصاعدي للأولويات الأهم فالأقل أهمية وهكذا، تأتي الحاجات الفيزيولوجية للإنسان (التنفس، الشرب، الأكل، الجنس، النوم، الإخراج، وغيرها من الحاجات التي تخدم البقاء البيولوجي بشكل مباشر)، ويليها مباشرة حاجات الأمان الإحساس بالأمن والثبات والنظام والحماية، والاعتماد على مصدر مشبع للحاجات، وفي درجات متقدمة تأتي الحاجة إلى التقدير وتحقيق الذات، لذا وحسب “ماسلو” فإن تأمين الأولويات هي أول درجات صعود الإنسانية، فعندما تتأمن وتصبح مستدامة وطبيعية، ينتقل لما يليها، وعندما يحقق ما يليها ينتقل تلقائيا إلى الأقل أولوية، حتى يصبح في مرحلة متقدمة جدا، متوحدا مع الكون ذاته.

في دراسة أجراها أحد الخبراء الاقتصاديين السوريين عام 2017، تبين له أن العائلة السورية المكونة من 5 أفراد، يلزمها ما يقارب الـ170 ألف ليرة سورية، لتأمين مستلزمات وضروريات البقاء، منها الأكل والشرب والدواء والسكن والدفء، الدراسة والطبابة، وغيره، ولكن ما علاقة هذا الكلام بنظرية ماسلو ومثلثه الشهير.

في الحقيقة أن السواد الأعظم من السوريين، لا يستطيعون تأمين نصف هذا المبلغ شهريا، ما يعني أنهم بذلك عادوا لقاعدة الهرم في الأولويات، أي للغرائز، فنصف المبلغ لا يكفي لتأمين الطعام طيلة الشهر، رغم أن كل شيء من الطعام والفواكه وخلافه، مؤمن، ولا يوجد أي نقص فيه أو حتى في كمالياته، لكن شرائه هو العسير، فواقع الحال أننا ندفع بالدولار، ونقبض بالليرة، لذا هناك بون شاسع بين الحاجات الاساسية وتلبيتها، وفي حال كهذه، لا تستطيع أن تطلب ممن لا يمكنه تامين قوت يومه، أن يكون متحضرا وراقيا وصاحب وعي متقد، يقرا، يطالع، يتابع المستجدات الثقافية والفكرية محليا على الأقل. ممولو الحرب على سورية، وضعوا هذا في بالهم ولم يفتهم أن الجوع “يأكل” حتى القيم والمبادئ، تلك التي يكتسبها المرء من محيطه الاجتماعي ومن عادات وتقاليد بلده وأهله من الدائرة الأكبر التي هي الوطن، إلى الدائرة الأصغر، الاسرة، سواء من على مقاعد المدارس والجامعات، أو من الحكم الشعبية ومدرسة الحياة.

من يتابع الإعلانات التي تبثها قنواتنا المحلية، وهي في معظمها إما لنوعية من البسكوت أو العلكة أو مراكز التجميل الفاخرة، يدرك أن الناس الفقراء وهم كما قلنا السواد الأعظم من السوريين بعد أن فعلت بهم الحرب ما فعلت وبقوا وصامدين، ليسوا في وراد من يفكر بالمشاريع الاقتصادية غير الضرورية هذه، بالتأكيد السيدة الفقيرة، لا تعنيها مراكز التجميل، وصناعة البسكوت والعلكة وخلافهما، ليست بالصناعة التي تحرك الركود الاقتصادي، الذي يؤثر بدوره ويضغط بشدة على الحالة الثقافية عموما عند الناس، فهي من الرفاهيات في أحوال عصيبة كهذه، فبين بطاقة لحضور فيلم بـألف ليرة سورية، وكيلو رز، سينتصر الرز، وهذا ينسحب على بقية المفردات الثقافية والاجتماعية في البلاد.

الناس تعض على الجراح، ولسان حالها يصيح “آه” ليس من الطرب، بل من الجوع، من الجوع الذي لم نكن نصدق يوما، أن ثمة من ينام وهو جائع، لكن هذا للأسف يحصل ويوميا هناك الكثير من السوريين، الذي يبيتون ليلتهم على معدات فارغة، وهؤلاء لا تستطيع أن تطلب منهم أن يذهبوا لحضور عرض مسرحي أو لقراءة كتاب، ولم تبق في جسدهم عزيمة تمكنهم من الذهاب إلى الحرب.

تمّام علي بركات