مساحة حرة

إلى العزيزة مصر:عتبنا عتب المحب الذي اشتاق لزمان الوصل!

يتفهم سياسيو سورية «ظروف» مصر، لكن الإنسان السوري العادي لايمكنه إلا أن يعبّر عن ألمه.. وعتبه. ولايخفف من هذا الألم إلا شعاع الأمل في عودة المياه إلى المجرى السوري المصري الواحد.
ويتفهم سياسيو سورية أوضاع الشقيقة الكبرى، وهم الذين اعتادوا على النفَس الطويل، المؤمنون بأن الانتظار الصبور في فَيْء الحكمة خيرٌ من رد فعل سريع في لظى الغضب. فالتعامل مع الشقيق تحكمه قوانين نوعية جوهرها أن «التفهم» مهما طال هو السبيل الصحيح «للتفاهم» مهما تأخر.
ويعي هؤلاء السياسيون جدل العلاقة التفاعلي بين «السياسي» و«الأمني» في الظروف الراهنة، خاصة وأن مؤسسة «الأمن الوطني» عندنا، كما في العالم كله، مؤسسة سياسية بامتياز.
إلى جانب هذا «التفهم» الذي يُحيي الأمل، يبقى العتب الناتج عن الألم..
عتب «هنا القاهرة» من إذاعة دمشق.. وعتب أحمد شوقي ودمعه الذي «لا يُكفكف» على بلوى دمشق، الصابرة أبداً على البلوى.
عتب سائقي «التاكسي» في دمشق وحلب وغيرها من المدن السورية الذين يرفضون أخذ الأجرة من زبائنهم المصريين تعبيراً عن إكرامهم ومحبتهم.
إنه عتب الجناح «الشمالي» على الجناح «الجنوبي» في جسد الطائر نفسه الذي لايستطيع التحليق في سماء المنطقة إلا إذا تناغم الجناحان في حركة منسقة.. وهي السماء التي تلبدت بالغيوم السوداء وضجت بنعيق الغراب الوهابي.
عتب الجيش «الأول» على الجيوش «الثاني والثالث والرابع».
عتب سليمان الحلبي وجول جمال وعمال الموانئ السورية الذين قاطعوا السفن الأجنبية دعماً لمصر (1956).
إنه عتب التاريخ والجغرافيا والثقافة على الحاضر السيئ.
عتب ملوك الفراعنة والهكسوس، وزنوبيا التي أغضبت أورليان الروماني عندما حررت مصر من روما ليقينها أن أمن سورية الوطني من أمن مصر الوطني، وأن السبب والنتيجة في هذه العلاقة التفاعلية يتبادلان موقعهما باستمرار.
عتب صلاح الدين ومحمد علي باشا وكل من حكم مصر فعرف أن الوجهة شمال – شرق هي الوجهة الطبيعية… وهو عتب الأشياء في طبيعتها والبشر في طبائعهم على المصطنع والزائف.
عتب الكبير عبد الناصر وقلب «عروبته» النابض الذي تخلى عنه «عقل» العروبة في أحلك الظروف متجاهلاً أن تلازم القلب والعقل جوهر الحقيقة.. والحقيقة خارج جوهرها تصبح مجرد خدعة.
عتب الرجال السوريين – ومنهم والدي – الذين بكوا ألماً صبيحة الثامن والعشرين من أيلول (1961)، والرجال لاتبكي إلا لمصاب جلل، ثم اطمأنوا بعدما سمعوا البيان رقم (9) .. لكن فرحتهم القصيرة اغتالها البيان رقم (10) المشؤوم.
عتب قادة سورية… شكري القوتلي الذي لازم خروتشوف في موسكو ضاغطاً عليه ومشجعاً له وصولاً إلى إنذار بولغانين الشهير لدول العدوان الثلاثي على مصر عام (1956). وحافظ الأسد الذي كان متيقناً من أن لقاء الجيشين السوري والمصري في حرب تشرين ضرورة تفرضها طبيعة الأشياء على الرغم من توقعه باحتمال وأد النصر بهزيمة (الكامب). وبشار الأسد الذي أشار إلى حقائق التاريخ عندما قال: «إن العلاقات بين سورية ومصر هي التي تحقق توازناً على الساحة العربية… هذا موضوع معروف عبر العصر الحديث، ولكنه كان معروفاً أيضاً بالنسبة للفراعنة الذين كانوا يعتقدون أن أمنهم القومي في ذلك الوقت موجود في سورية وكانت أول معاهدة نتيجة الصراع بين الفراعنة والحثيين في عام (1200) قبل الميلاد». لقد التقى في الإيمان بعضوية العلاقة مع مصر طرفا المعادلة الوطنية السورية «التقليدي» و«التحرري»..
وعضوية العلاقة اكتشفها أعداؤنا أيضاً… ألم يربط الصهاينة النيل بالفرات في خطتهم العدوانية على البلدين؟..
واكتشفها أصدقاؤنا كذلك… فروسيا في دعمها لسورية ومصر فهمت أهمية النهرين للبلدين وساعدتهما في بناء أكبر صرحين نهضويين في المنطقة: السد العالي وسد الفرات. كيف سيكون حال الاقتصاد المصري والسوري لولا هذان الصرحان؟؟.. وأنتم يا أتباع أمريكا – من المحيط إلى الخليج – دلونا أي صرح نهضوي ساعدتكم أمريكا أو بريطانيا أو فرنسا على بنائه بهذا الحجم أو بنصفه.. أو حتى ربعه.

د. مهدي دخل الله