مساحة حرة

ارتحال وطن؟!

قصتي مع سورية هي حكاية كل شخص التقيته فيها، كل مشاعر الوطنية والكرامة والهوية والإخاء لا تُدرس في المدارس بقدر ما تشربها مع الشاي في المقاهي العتيقة والمطاعم العتيدة وفي أي جلسة كانت مهنية أو شخصية، وحتى في السهرات الأكثر حميمية، تدخل سورية من السقوف والنوافذ وحتى من الشقوق، لتذكرك أنه لولاها ما عشت تلك اللحظات.. هذا الوطن ليس عابرا، وشهادة ميلاده موجودة، وعمره مديد ولا أحد يمكنه أن يضع حدا لنهايته مهما عظم جبروته. حين كنت أتجول في شوارع حلب وطروطوس واللاذقية ودمشق والسويداء ودرعا والقنيطرة.. المشاعر هي هي التي تنتفض بداخلي، يدق قلبي بسرعة فأكل بعيني كل زاوية وأغترف أي يافطة أو اسم مكتوب على الجدار ولو كان خربشات عاشقين (فلان+فلانة = حب).. وحده السوري يفهم ما أقوله أو ربما هو آخر من يعلم بأن بلاده تحيك مكائد العشق لزوارها حتى توقعهم فيها إلى الأبد، وسرها تلك العقد والخيوط والتصاميم والألوان التي جعلت منها صورة حية مصغرة عن العالم.

تمشيط الأزقة والجبال والشواطئ والبيوت ووجوه الناس، عرفني على أجانب مقيمين في سورية، هؤلاء فقط من يعززون ثقتي في تلك العلاقة المشروعة بيني وبينها، لطالما باركوا سنين عمري فيها التي هي ثمرة ذلك العشق. أصدقائي الأجانب جاؤوا سواحا أو طلابا أو هاربين من حكامهم أو من أحبتهم، وكثيرات أحببن رجالا منها فسكنً اليهم وسكنتهم سورية. في منتصف الحرب على سورية، دعيت إلى عشاء في مطعم بأحد حارات دمشق القديمة، كان الخوف قد بدأ يسري في عروق الناس، رغم ذلك كان فإن حب الحياة وعيشها هو منطق كل سوري.. المهم كان الجو “رايق” وما زاده رونقا هو تلك الشموع التي لم توضع على الطاولات بتحريض من رومانسية الديكور، وإنما لانقطاع الكهرباء!! أكلنا وشربنا ورقصنا وتسامرنا إلى أن تعب البعض وخاف البعض الآخر بسبب تأخر الوقت فغادر الجميع، ما عدا ثلاث طاولات، خُفف صوت الموسيقى وبدأ العمال بتنظيف المكان، دعانا صاحب المحل هذه المرة على حساب المطعم، فتجمعت الطاولات إلى واحدة، مما قربنا أكثر من بعضنا، تحدث كل منّا بصراحة عن رأيه السياسي، ما بقي عالقا في ذهني هو سيدة روسية كانت تدافع عن سورية بشراسة أهل البدو والقرى، كانت تصرخ في وجه المؤيدين والمعارضين على حد سواء، لم ترحم عباراتها الهجينة ولكنتها البولشوفية أحدا، حتى زوجها المسكين كان مثل الطالب الفاشل لم ينطق ببنت شفة.. هكذا هي سورية تخلق في كل مرة أصدقاء جدد وأعداء أيضا.. من معارفي السوريين أيضا في بلاد الأمويين، كهل من أرقى العائلات الدمشقية، اتصل مرة من لبنان ليخبرني أنه اجبر على الهجرة إلى بلد والدته (لبنان) بسبب غلاء المعيشة وقذائف الهاون، استغربت قليلا ليس بسبب مبرراته، ولكن تذكرت حينما كان يتغنى بحب سورية، كان يجبرنا على سماع ولساعات سيمفونيات من الوطنية والصمود والمقاومة، تأكدت بعد هذا الاتصال أنه كان يكذب فهو لم يكن يوما موجودا خلال فترة اعتداءات “الاخوان” على السوريين ولم يكن موجودا أيضا في حرب 1973 ولا حتى في ايام حرب الخليج لا الأولى ولا الثانية!! قصة هذا الكهل هي بعكس قصة السيدة الحلبية التي دعتني إلى بيتها في “كفر حمرا” في شتاء 2010 .. البيت كان عبارة عن قبو لا أثاث فيه الا الضروري جدا، ولأننا كنا في فصل الشتاء ولا تملك حتى مدفأة كهربائية صغيرة، اقترحت على حياء أن نجلس في المطبخ عسى رائحة الطبخ ونار الفرن تدفئنا، دخلت المطبخ الصغير وإذ بي وجها لوجه مع صور للرئيس بشار الأسد وعائلته الصغيرة تملأ الجدران، لم استطع أن أصمت كعادتي، قلت لها اتحبين الرئيس، فقالت بلهجتها الحلبية “أبوس روحو اشقد بحبو.. شوفيلي هالعيلة ما أحلاها”.. استغربت وتمتمت: كنت اعتقد أن الفقراء لا يحبون رؤسائهم بل انهم يتناسون وجودهم!! بعد سنوات ثلاث على هذه الحادثة، تعرضت “كفر حمرا” للغزو من قبل متطرفي القاعدة، مما أجبر أهاليها على مغادرتها على جناح السرعة، تاركين ورائهم كل ما يملكون من ذكريات وأملاك، عرفت ذلك لأن السيدة الحلبية اتصلت بي يوما وأخبرتني أنها تقيم في أحد مراكز الإيواء بالمدينة، لم تتصل لتخبرني عن هذا الأمر، بل لتقول لي أنها استطاعت اخراج صور عائلة الرئيس!! لم يعن لها الاثاث الضروري جدا شيئا! لم تسألني تلك السيدة الحلبية ان كنت سأغادر سورية أم لا؟ لكن عندما قلت لها انني اشتقت لحلب، قالت لي: لن تعرفيها، لا تأتي الآن فلتؤجلي قدومك إلى هنا حتى تعود الأحوال كما كانت.. لقد رفضت أن تشوه الصورة التي في خاطري بل تلك الحقيقة وإن غيروا ملامحها لكن جوهرها يبقى محروسا محفوظا.

سلوى حفظ الله – الجزائر