مساحة حرة

استدعاء ثنائيّة “التقدّم والتخلّف”

شكّل غياب مفردات التقدّم والتخلّف، الثورة والشعب، الامبريالية والرجعيّة.. إلخ من المعجم السياسي العربي، ومن المعجم السياسي الدولي في مطلع الألفية الثالثة، وخاصةً بعد أحداث 11 أيلول 2001، مؤشراً على نجاح طرح إيديولوجيا نهاية التاريخ لفرنسيس فوكوياما الذي رأى أن عجلة التاريخ انتهت بعد انهيار أوروبا الشرقية، فبدأ – كما صرّح عام 1990 – تاريخ جديد تُكتب صفحاتُه في قطار الزمن الأمريكي، وعلى الشعوب أن تتسابق لحجز مقعد لها في عربة هذا القطار لتأخذ مكاناً لها في التاريخ الجديد الذي تصنعه العولمة والشركات متعددة الجنسيات، وتتصدّع فيه حدود الأوطان، واعتزاز الشعوب بأفقها الحضاري.

وفعلاً، رأينا في هذه المنطقة من العالم حرج المثقفين والإعلاميين والحزبيين والنقابيين في استخدام هذه المفردات، فمثلاً كان صدى كلمة «رفيق» يتردد في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية، فغاب الصدى وتلاشت الحقول الدلالية المتصلة بهذه المفردة حتى في كتابات الرفاق في الأحزاب اليسارية والوطنيّة والقوميّة التقدميّة.

مؤخّراً، كان من اللافت والمهم إشارة الرفيق المناضل الرئيس بشار الأسد إلى هذه الظاهرة في معرض حديث سيادته في لقاءين، الأول مع كوادر وزارة الخارجية والمغتربين، والثاني مع المشاركين في اللقاء العام للشباب السرياني.

في اللقاء الأول تحدّث السيد الرئيس حديثاً تاريخيّاً يغني بقيمته العالية عن التعقيب فقال: «الثورة لم تفشل، ونحن نفتخر بها.. هم اعتقدوا لفترة بأنهم احتكروا مصطلح الثورة. الثورة هي مصطلحنا الذي مازلنا نفتخر به، والثوار الحقيقيون هم النخبة الوطنية، هم النخبة الإنسانية، هم النخبة الأخلاقية…».

في اللقاء الثاني، كانت الإشارة إلى مسألة التخلّف عابرة، إلا أنَّ ربطها بالسياق العام للحديث أمام الشباب لـ«تعزيز الحوار بديلاً عن التطرف الديني والاجتماعي» يوضح أهمّيتها ومركزيّتها. قال سيادته:«نحن السوريين لم ولن نسمح لأي أحد بتخريب بلدنا: بتخلّفه، أو بمحدودية رؤيته».

والواقع هو أنَّ ظاهرة التخلّف حاضرة بقوّة في الوقت الراهن في مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة، ومع الأسف فقد تقدّم طرحها وحضورها على أنقاض ظاهرة التقدّم التي كانت قد أعقبت، بل سبقت، حركة التحرّر الوطني والاستقلال العربيّة. لقد سرنا بعكس عجلة التاريخ.

وظاهرة التقدّم والتحرّر في عصر اليقظة والنهضة العربيّة تجلّت مع بدايات القرن الماضي في نضال الشعب العربي في مغرب الوطن ومشرقه ضد الاستعمارين العثماني والغربي، وكان روادها النهضويون رجالاً وطنيين وعروبيين، يساريين وليبراليين، ورجال دين مسلمين ومسيحيين مستنيرين تقدّميين. أين أمثال هؤلاء الآن؟!.

أما ظاهرة التخلّف التي رأى فيها السيد الرئيس تخريباً للأوطان، ومحدوديّة في الرؤية، وهي لاشكّ كذلك، فهي حقيقةً وفي الواقع سبب أساسيّ لمعاناتنا في سورية وفي غيرها من الأقطار العربيّة من الأزمة الكبرى الراهنة التي مضى عليها قرابة السنوات السبع مستهدفةً أكثر ما استهدفت حواضر العرب التاريخيّة والمعاصرة: دمشق – بغداد – القاهرة.

هذه الأزمة الكبرى من أهم ملامحها الصراع بين التقدّم والتخلّف، بين الحوار والتطرّف، بين العلمانيّة والظلاميّة، بين العقل والنقل، بين الشرق والغرب أيضاً. وليست الحريّة، والمظلوميّة، والشعب يريد.. إلا شعارات مخاتلة مأجورة. ولذلك كانت حركة العصابات المسلحة تخلفاً، وردة فعل على المنجز  التقدمي الوطني السابق، فالتطرف والتكفير تخلفٌ ولاشك، والحوار والانسجام والتعايش تقدم ولا شك أيضاً، وستثبت الأزمة أن شعبنا سيتجه نحو التقدّم ويرفض التخلّف.

من أهمّ المفارقات في ثنائيّة التقدّم والتخلّف الراهنة هو أنَّ الغرب الحداثوي «المتقدّم» كان، ولايزال خلال هذه الأزمة، يراهن على مظاهر التخلّف وأدواته ورجالاته في مجتمعاتنا. هذه المراهنة على التخلّف لم تقتصر على الغرب بل على أغلب أطياف المعارضة التي راهنت منذ البداية على العنف والدمار، على العصبيات، على التطهير العرقي والطائفي، على الرجعيّة العربيّة والعثمانيّة.

هذا يؤكّد أن قوى التخلّف في مجتمعاتنا هي ركيزة الغرب والرجعيّة العربيّة، والهيكل الأساسي للمعارضة. وهذا هو التخريب والدمار المادي والمعنوي، ومحدوديّة الرؤية التي لن يسمح بها السوريون كما أوضح السيد الرئيس.

في هذا السياق كان حزبنا رياديّاً ورؤيويّاً في تأكيد أدبيّاته على تلازم النضالين السياسي والاجتماعي، انطلاقاً من إدراك كوادره أنَّ مفهوم التقدّم في الفكر البرجوازي لطالما راهن في نزوعه المعولم على مظاهر التخلّف وأدواته في الشرق، بينما كان هذا المفهوم في الفكر الاشتراكي ولاسيَّما الشرقي على النقيض، إذ ارتبط بالنزوع الإنساني وبعلاقات السلم والصداقة والتضامن بين الشعوب.

ولذلك نحن على صواب أكيد حين نتمسّك بطرح “التوجّه شرقاً”. فالشرقُ على مايبدو ضمانتنا وحاجتنا للإعمار المعنوي «البنى الفوقيّة» أولاً، والمادي «البنى التحتيّة» ثانياً.

د. عبد اللطيف عمران