مساحة حرة

استراتيجية خطاب “التصحيح”

في العقدين الأخيرين، وقُبيل مطلع الألفية الثالثة برزت بين صفوف البعثيين، وفي مؤسساتهم، وفي أغلب قطاعات الشعب الدعوة إلى التكيّف مع المتغيرات، ومواكبة معطيات الحداثة والعولمة، وما تتطلبه هذه المواكبة من خطاب جديد «غير نمطي» في الفكر وفي العمل «النظرية والممارسة»، وبدأ المجتمع بكافة قطاعاته السياسية والاقتصادية والثقافية يضجّ بالاستراتيجيات التي أفرزها الخطاب الرقمي، والمجتمع المدني، والجمعيات الأهلية، والمنظمات غير الحكومية N.G.O، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي U.N.D.P، وصولاً إلى اقتصاد السوق «الاجتماعي»، وهي استراتيجيات ظن تيار التطبيع أنه سيتمكن من الإفادة منها، من منطلق الاحتواء.

لقد كانت استراتيجيات هذا الخطاب تُضمر في أدبياتها «خلايا نائمة» جعلت الكثيرين «يبتسمون» حين يُطرح أمامهم خطاب الثوابت والمبادىء العقائدي، ويرون ثقلاً يكاد لا يُحتمل في الاحتفاء التقليدي بذكرى المناسبات الوطنية من 7 نيسان إلى 8 آذار إلى 16 ت2 حتى 6 ت1، منطلقين من أننا صرنا أمام جيل عليه أن يتلاءم في تطور وعيه وعمله مع مفرزات العولمة، وثورة المعلومة وسرعة انتقالها، مع السوشيال ميديا التي كانت ولاتزال في حِلّ من قيود الالتزام، والمسؤولية، والعلمية، والموضوعية، بعد نجاحها في إيهام كثيرين بأنها صورة من صور الرأي العام، وصوت من لا صوت له.

ثم استيقظت هذه الخلايا النائمة بقوة تدميرية للبنى الفوقية والتحتية مع أول منعطف، وكشفت لنا أسباب ضعف المنَعة، والثغور الواسعة في حصن الوطنية ولاسيما حين رفع التكفيريون شعار العقائدية المزيّف.

وبالتأكيد فإن مع البعثيين بعض الحق في التمسّك بأدبيات المبادىء والثوابت.. وما يتصل بها خلال العقود الثمانية التي أعقبت حركة التحرر والاستقلال الوطني، فأعداء الشعب والوطن والأمة لايزالون هم هم، وكذلك القضية المركزية ماتزال مركزية… وهكذا الأمر مع عودة الحقوق وتحرير الأرض ومواجهة جرائم الحلف الصهيوأطلسي – الرجعي العربي.

ولكن الخطاب المحمّل بالتكرار، والمُثقل بالمترادفات، وبالنزعة اللفظية طيلة عقود من السنين أسهم في السأم، وفي طلب الجديد، والتطلّع إلى التغيير، فاتضح في غير قليل من الأحيان أنه خطاب مأزوم تقبله الأجيال الجديدة من قبيل «وبالوالدين إحساناً» ولاسيما أن أغلب هذا الجيل وُلِد بعد هذه المناسبات، وهو اليوم يتجاوز العقد الرابع من عمره، وها هي الأزمة التي أفرزها العدوان على سورية تطحن أحلامه وتعركها، أو كادت.

في هذا اليوم، أو هذه الأيام، صارت الحاجة ملحّة إلى خطاب جديد ينتج عنه عمل جديد، ولاسيما أن جيل الروّاد لم يُبقِ بقيةً لمجتهد في خطاب الثوابت والمبادىء الذي أُرهق بالتكرار، وأفقده بريقه، وبالتالي تأثيره في المجتمع، فماذا ترك الأوّل للآخر؟!

وإنها لإشكالية كبرى أمام المجتمع السياسي الوطني السوري ليس من السهل الإجابة عنها في معرفة كيفية حاجة الواقع إلى قراءة أو خطاب جديد، أو مغاير، واليوم يقف أمام هذه الإشكالية – وعلى السواء – القوميون، واليساريون، والإسلاميون، والليبراليون.

وها هي الأحزاب والمنظمات وسائر المؤسسات المعنية تكابد صعوبة اتخاذ القرار وتنفيذه في القديم، والجديد، والمغاير، في الثابت والمتحوّل. ولربّ قائل يقول: إن هذه «الجهات المعنية» بدأت منذ سنوات تعمل على تحقيق الجديد المطلوب، ويبدو أنها كادت أو هي تكاد تنجزه بالشكل المنشود؟!!.

وعودةً إلى حديث الروّاد، وفي طليعتهم حافظ الأسد القائد المؤسس الذي أنجز في خطاب التصحيح ذي الأصداء المدوّية في تلك الأيام والتي لاتزال نبراتها ملهمة حتى اليوم ويبدو كذلك في المستقبل، أنجز مفردات جديدة فاعلة ومنتجة، كانت غائبة قبل التصحيح، وعادت لتغيب مع اشتداد مفرزات «ربيع» التطرف والتكفير والإرهاب، مفردات خطاب انعكست إنجازاً وطنياً وقومياً يطول الحديث فيها ويتشعّب.

فكان اسم «التصحيح» منسجماً مع الهدف منه، الهدف الذي تحقق لا شك، ومنبثقاً من حقل دلالي واحد للجذر اللغوي لمفردتي «التصحيح» و«البعث». إذ أفرز عدوان حزيران 1967 تصحيحاً أنجز بعد سنوات ستٍّ 6 تشرين أول 1973، ومع جيل التصحيح والتجديد المستمر بدأ عدوان 2011 وبعد سنوات ستٍّ أيضاً يتمخّض عن عودة وعي، وصدق إحساس بالحاجة إلى المؤسسات الوطنية، وإلى الجيش العقائدي، وإلى القائد الصامد الذي تتعرف الأجيال معه إلى مفاهيم جديدة، وقيم مضافة لمعاني الوطنية، والعروبية، والتضحية والصمود، والمبادىء والثوابت، والجديد والمتغير الديناميكي الذي لا بد منه.

إن الخطاب الاستراتيجي المنشود في مجتمع أصابه ما أصابه كمجتمعاتنا الوطنية والعربية ينبغي أن ينطلق من صدق الإحساس بهموم الناس، بآمالها وآلامها، ومن القدرة على صياغة قابلة للتنفيذ ، بعيدة عن الوعد، قريبة من الوعيد.

خطاباً ليس ذا بعد واحد، ينتقل من الجماهيرية التحشيدية – التي طالما سادت ولم تجدِ كثيراً مع تعرضنا للمحكّ – إلى الشعبية: الشعبية الاجتماعية لا السياسية. خطاباً يعي جيداً معطيات نظرية التلقي، وأهمية الرسالة، والمرسِل، والمرسَل إليه، في مناخ الاندماج والتفاعل والعطاء والإنجاز.

خطاباً متقناً من جهة، وعفوياً صادقاً من جهة ثانية من أمثلته الساطعة حديث السيد الرئيس بشار الأسد أول أمس مع مختطفي ريف السويداء المحررين بدلالاته الوفيرة والمتنوّعة.

د. عبد اللطيف عمران

aomraan7@gmail.com