مساحة حرة

اعترافات دبلوماسية بعد انتهاء المهمة

عندما اتخذت الولايات المتحدة الأمريكية قرارها بغزو العراق، بدأت بالعمل على إصدار قرار عن مجلس الأمن الدولي يوفر لها الغطاء السياسي والدولي، ويستند على دليل امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل، ويخولها القيام بشن الحرب، وقد عرض وزير الخارجية يوم ذاك كولن باول صوراً ومشاهد على مجلس الأمن ادعى فيها أنها الدليل القاطع على امتلاك العراق هذا السلاح، وصدر القرار الموارب عن المجلس استناداً إلى هذه الصور الذي اتخذت الولايات المتحدة ذريعة لشن العدوان.

وبعد سقوط بغداد سارع الوزير باول متجهاً إلى دمشق ليبلغها شروطه الثمانية مزهواً بنشوة النصر في العراق التي لم تلق من القيادة السورية أذناً مصغية، وقوبلت بالرفض المطلق. وعندما أنهى كولن باول خدمته لدى الإدارة الأمريكية، طلع علينا باعترافات تقول بأن كل ما قدمه أمام مجلس الأمن كان مفبركاً، ومن صنع المخابرات الأمريكية، وأن العراق لم يكن يملك أياً من الأسلحة التي تبرر الغزو. ولا ندري ما إذا كان هذا الاعتراف هو تبرئة ذمة، أم صحوة ضمير، أم غير ذلك.

ومع بدء الأزمة في سورية، وفشل الرهان على سقوط النظام خلال أسابيع قليلة، بدأ البحث عن مبرر للتدخل بالشأن السوري، فقامت الجامعة العربية بطرح مبادرة أقرها مجلس وزراء الخارجية العرب، مؤلفة من عدة بنود، وتكليف لجنة وزارية لمتابعة تنفيذها، إلا أن سورية رفضت هذه المبادرة، لكنها وافقت على إرسال الموفد العربي الفريق محمد الدابي والبعثة المرافقة له، وكان الأمل معقوداً على أن يصدر عن البعثة تقرير يتضمن إدانات واضحة على ارتكاب النظام أعمالاً ترقى إلى مستوى الجرائم الإنسانية التي يعاقب عليها القانون الدولي، ويضع سورية تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، لتبرير التدخل بموجب قرار يصدر عن مجلس الأمن.

إلا أن البعثة عملت بمهنية وحرفية وحيادية عالية، فسارعت الجامعة إلى إفشال مهمتها عن طريق سحب خمسين مراقباً خليجياً، بناء على قرار صدر عن مجلس التعاون الخليجي، وقدم الفريق الدابي تقريره، وقبل مناقشة التقرير من قبل اللجنة الوزارة المعنية بالوضع في سورية، عقد اجتماع بين الفريق الدابي وحمد بن جاسم وزير الخارجية القطري بحضور الأمين العام للجامعة نبيل العربي، كانت نتائجه رفض فكرة التقرير والاستعاضة عنها بفكرة تقديم عرض ملخص لعمل البعثة، تفاقم الخلاف حول هذا الموضوع بين الدابي وحمد الذي طلب ضرورة التعاون الفني والتقني ومبدأ الدعم من قبل الأمم المتحدة.

فما كان من الدابي إلا أن قال: لدينا خبرات عربية مهمة يمكن الاستفادة منها، وإذا كان القصد بهذا الطرح الذهاب إلى مجلس الأمن للتدويل، فإنني سأعتذر عن رئاسة البعثة، وسأقول أمام الاجتماع ووسائل الإعلام في الخارج: (إنني بريء من دم الشعب السوري).

رُفض ما أتى عليه التقرير، ومُنع تداوله، وعرضه على مجلس الأمن، مما دفع الفريق الدابي إلى أن قدم استقالته، وأفاد أمام وسائل الإعلام، ما يشير إلى الضغوط التي تعرض لها هو وفريقه، ومحاولة تشويه سمعته، وقام بتسمية الأشياء بمسمياتها دون مواربة.

ولم تأل الجامعة العربية، التي صادرها حكام الخليج ومن خلفهم، جهداً بالسعي لإيجاد المبرر للتدخل تحت مسمى حل الأزمة التي يعانيها الشعب السوري، فتم تسمية كوفي عنان، الأمين العام السابق للأمم المتحدة مبعوثاً دولياً، عله يقدم الدليل المبحوث عنه، بتحميل النظام كل الجرائم المرتكبة. وبحكمة الدبلوماسي الدولي، قدم عنان مشروعاً من ست نقاط لحل الأزمة في سورية، لكن المشروع المقدم لم يلبّ رغبة أصحاب الشأن، ولم يكن الهدف من تكليفه حل الأزمة، بل الهدف هو إيجاد مبرر للتدخل الدولي، مما دفعه إلى تقديم استقالته، وكشف في تصريح صحفي بجريدة نمساوية خفايا مهمته، وأسباب استقالته وقال: إن قطر والسعودية وتركيا غذّت المعارضة السورية بالمال والسلاح، رغم دعوته إلى حل الأزمة بالحوار أساساً لمهمة دولية، وأن الحكومة السورية أيدت تجاوباً معه بخصوص وقف إطلاق النار، وأكد ضرورة حل الأزمة بالطرق السلمية والسياسية، رافضاً أي شكل من أشكال التدخل العسكري، وأن الدول الإقليمية والغربية رفضت النقاط الست التي تقدم بها كمشروع لحل الأزمة بسبب خلافاتها مع الحكومة السورية، وشكلت هذه الدول ما سمي بتجمّع (أصدقاء سورية).

وتزامناً مع مهمة المبعوث الدولي كوفي عنان، تم تكليف الجنرال روبرت مود رئيساً لبعثة المراقبين الدوليين من قبل الأمم المتحدة للعمل على تطبيق خطة كوفي عنان ذات النقاط الست، ولكن مهمة لم تطُل، وأكد أن التهديدات الغربية بالتدخل الخارجي بحجة حماية المدنيين وأن مهمة بعثة المراقبين الدوليين في سورية هي تنفيذ وقف إطلاق النار، وحان الوقت للوقوف إلى جانب الشعب السوري، وقال إن الضغط الخارجي والإدانة اللفظية والتهديدات الضمنية التي كان يقوم بها القادة الغربيون زادت من مستوى العنف، وأن المتطرفين يتحدون عمداً النسيج الآمن في سورية.

أمام هذا الفشل الذريع لساسة بناة الشرق الأوسط الجديد للتدخل في سورية من الولايات المتحدة وحلفائها الأوربيين، إلى أدواتها في المنطقة من قطر إلى السعودية إلى تركيا إلى إسرائيل، كان لا بد من الحفاظ على خط حل الأزمة لسورية بالطرق الدبلوماسية كمبرر، فكان رجل المهمة هذه المرة الأخضر الإبراهيمي المسمى بالدبلوماسي المخضرم باسم المبعوث العربي الأممي، إلا أن سورية أكدت استعدادها للتعاون معه مبعوثاً للأمم المتحدة فقط، وذلك لأن الجامعة العربية هي طرف في التآمر على سورية، وقد انتهى دورها منذ قيامها بإنهاء مهمة الفريق الدابي، وكان الإبراهيمي واضحاً بعدم حياديته منذ البداية من خلال تصريحاته التي كان غالباً ما يحمّل الجانب الرسمي المسؤولية عما يجري على الأرض دون الإشارة أو التلميح لدور المجموعات الإرهابية، رغم تذكيره دوماً بالبقاء على الحيادية والمهنية، واطلاعه على تقارير وصور تؤكد أفعال هذه المجموعات. وآخر ما أتى عليه تدخله بالشأن الداخلي السوري، واعتبار ترشيح السيد الرئيس نفسه لرئاسة الجمهورية يعيق عملية الحل.

والسؤال الذي يطرح نفسه: ماذا سيقول الأخضر الإبراهيمي بعد انتهاء مهمته؟

هل سيقدم اعترافات مشابهة لما قدمه المبعوثون السابقون؟ أم سيتفوق عليهم؟ أم سيبقى لسان حال المشروع المكلف بتنفيذه؟

أما اعترافات عزمي بشارة الضيف الدائم بقناة الجزيرة التحريضية على سفك الدم السوري في كتابه المسمى (سورية درب الآلام نحو الحرية) الذي دحض فيه كل ما بني عليه الحراك من فضائح منها: إن حماية المظاهرات كانت حجة لتبرير حمل السلاح، وإن الدعوة للتظاهر كانت تتم من خلال أشخاص مقيمين خارج سورية، وكل ما قيل عن الحرق وقلع أظافر الأطفال في درعا كان مجرد شائعات غير صحيحة، وأن شهود العيان كانوا يبالغون، ويعملون على التحريض الطائفي، وغالباً ما يكون شاهد العيان موجوداً في باريس، وأغلب الذين حملوا السلاح كانوا من المدنيين لا من الجنود والضباط العاديين، وإنكار المظاهر المسلحة أصبح بحاجة إلى لافتة، أو جسم سياسي يشرعن الانتقال إلى العسكرة. وشكل الإعلان عن تشكيل (الجيش الحر) هذه اللافتة، وأصبح غطاء لكل أشكال التسليح، وإن اللقاء الإعلامي مع بعض الضباط غالياً ما يتحدثون من إسطنبول، والكثير من الاعترافات على هذه الشاكلة. ونحيلمن يرغب الاطلاع أكثر إلى مقالة منشورة على موقع (الجمل بما حمل) الإلكتروني للكاتب بسام الحكيم.

كل هذه الاعترافات جاءت بقلم من سمي المفكر العربي، الذي لعب دوراً سلبياً تجاه الشعوب العربية والحراك الذي ساد من تونس إلى مصر إلى ليبيا واليمن والدور التحريضي ضد سورية من خلال قناة التضليل الإعلامي (الجزيرة). يا ترى، هل بدأ عزمي بشارة يشعر بقرب انتهاء اللعبة القذرة التي كان إحدى أدواتها؟

وبعد، ومع دخول الأزمة في سورية عامها الرابع، وأمام صمود الشعب العربي وجيشه الباسل في مواجهة أشرس هجمة تعرض لها شعب من شعوب العالم على مدى التاريخ، بدأت اللعنة السورية، ترتد على كل من شارك فيها وفي صناعتها بدءاً من قطر وغياب الحمدين، إلى مصر وغياب الإخوان، وتركيا واهتزاز عرش أردوغان، والسعودية وتداعيات الأزمة عليها.

وأمام صلابة الموقف السوري لم يعد بالإمكان إلا البحث عن حل سياسي لهذه الأزمة، ينهي حالة الصراع، والحفاظ على الدولة السورية، ومؤسساتها ورموزها واستحقاقاتها الدستورية وثوابتها الوطنية، والإقرار بفشل مشروع الشرق الأوسط الجديد أو الكبير، ليبقى مشروع الصمود والمقاومة والمواجهة في وجه كل مخططات العدوان الأمريكية والصهيونية وأدواتهما في المنطقة.

والسؤال الذي يطرح دائماً: لماذا يقوم الدبلوماسيون والموفدون الدوليون الذين يكلفون بمهام كبيرة بكشف أسرار عملهم بعد انتهاء مهماتهم؟

سؤال لم نجد الإجابة عنه حتى الآن.

المحامي فؤاد البني