مساحة حرة

الإعلام الغربي ومهمة التضليل..

 

ماذا لو لم يعترف المخرج النرويجي بفبركة الفيلم؟

تسابقت وسائل الإعلام الغربية والعربية التي تدعي الحياد واعتماد مبدأ الرأي والرأي الأخر، على مدى أكثر من أسبوع للترويج لمقطع فيديو نشر على موقع يوتيوب تحت عنوان ((طفل بطل من سورية)) مدته حوالي الدقيقة. يصور المقطع طفلاً لا يتجاوز ربما العاشرة من العمر يخاطر تحت رصاص قناص لينقذ فتاة اصغر منه سناً. وسائل الإعلام الغربية التي تناقلت المقطع قالت «إنه من مدينة حلب ويشرح تعرض الأطفال في سورية للاستهداف من قبل الجيش السوري»!!

لن نناقش هنا بطولة أطفال سورية، وما تعرضوا له خلال الحرب الإرهابية التي تواجهها البلاد، ولكن نحن بصدد الحديث عن الطريقة التي تتطوع فيها وسائل إعلام غربية تفاخر بالحرية الإعلامية والمصداقية والمهنية لتلقف مادة فيلمية من مواقع التواصل الاجتماعي وتتعامل معها كأنها حقيقة لا تقبل الشك، رغم معرفة وسائل الإعلام تلك، بأن صدقيّة أي مادة تنشر على مواقع التواصل الاجتماعي معدومة، ولا يمكن الوثوق بها نظراً لإمكانية التركيب والتلفيق والتزوير وغير ذلك مما يحظره ميثاق الشرف الإعلامي المعمول به عالمياً.

ويكفي أن نتابع سير نشر مقطع الفيديو على وسائل الإعلام الغربية لندرك مدى استخفاف وسائل الإعلام هذه بمعايير المهنية والموضوعية، فصحيفة «ديلي تلغراف» البريطانية التي نشرت مقطع الفيديو قالت ..«إن خبراء أكدوا صدقيّتة»، وقناة «بي بي سي» التي استعانت بأحد مراسليها في الشرق الأوسط للتأكد من حقيقة المقطع، أكدت بما يدع مجالاً للشك «أنه التقط في سورية ومن جبهات القتال فيها»!! وهذا التأكيد بطبيعة الحال يعطي مصداقية للمادة كلها من حيث مضمونها وليس لمجرد مكانها. كما نشرت صحيفة «انترناشنال بزنس تايمز» البريطانية المقطع وكتبت أن «الحادث ليس الأول من نوعه في سورية».

ولم تتوان وسائل الإعلام الأمريكية عن تلقف مقطع الفيديو كدليل على «فظاعة النظام السوري واستهدافه الأطفال» .. وحتى الصحفية الأمريكية المعروفة «ليز سلاي» مديرة مكتب صحيفة واشنطن بوست في بيروت والمختصة في شؤون الشرق الأوسط، نشرت الفيديو على صفحتها في تويتر وعلقت « واو. فتى ينقذ فتاة من إطلاق الرصاص في سورية.. والجنود يواصلون إطلاق النار. أنهم أطفال» وما يزال التعليق موجوداً رغم قيام إدارة يوتيوب بحذف محتوى الفيديو بعد انكشاف حقيقته.

الخارجية الأمريكية لم تتأخر هي الأخرى عن التقاط الفرصة، وهي التي تبحث دائماً عن أي سبب لتنتقد الحكومة السورية وتحاول تشويه صورتها، فما كان منها إلاّ أن بثت جرعة زائدة في الحملة الدعائية لمقطع الفيديو بأن وضعته على صفحتها على تويتر وعنونته بـ «طفل بطل ينقذ فتاة من رصاص قناص الجيش السوري»..!!

وبعد أن استقطب المقطع مشاهدات تجاوزت الـ5 ملايين،.. تبين أن المقطع جزء من مادة فيلمية صورها المخرج النرويجي لارس كليفبرغ في أيار 2014 في جزيرة مالطا، بهدف إثارة موضوع استهداف الأطفال في النزاعات أمام الرأي العام العالمي، بحسب ما صرح لاحقاً.

إن الكشف عن حقيقة مقطع الفيديو هذا، الذي جاء بعد نحو أسبوع من تداوله بشكل واسع، وإن أثار سخطاً في الأوساط الإعلامية وأوساط الرأي العام، إلاّ أنه لن يستطيع أن يلملم النتائج السلبية التي تسبب بها في كافة الاتجاهات السياسية والإعلامية والأخلاقية.

وربما لولا أن المعهد النرويجي للأفلام الذي شارك في تمويل تصوير الفيلم، حث المخرج لكشف القصة الحقيقية للفيلم بعد انتشاره السريع والتعاطي معه على انه حقيقي، لما كان من الممكن معرفة الحقيقة ولبقيت الصورة المفبركة «حقيقة لا تقبل الشك» في نظر الرأي العام الغربي ولدى صناع القرار في الدول المعادية لسورية.

ورغم اعتراف المخرج في اتصال مع «بي بي سي» بالقصة الحقيقية للفيلم وأنه تم تصويره في جزيرة مالطا في أيار الماضي، وأن الفتى والفتاة ممثلان محترفان من الجزيرة أيضاً، وأن الأصوات المرافقة هي دبلجة لأصوات لاجئين سوريين في مالطا، إلاّ أنه تباهى بقدرته على خداع الناس وأن يثير جدالاً حول المسألة، ولم يأسف أبداً للنتائج السلبية التي أثارها نشر فيلمه بشكل مفبرك على المستويات الأخلاقية والمسؤولية القانونية وغيرها.

وسائل الإعلام الغربية وإن اعترفت بأن المادة الفيلمية مفبركة ونشرت ذلك بشكل واسع، لكنها لم تعتذر للرأي العام الذي ساهمت في تضليله، وهي بكل تأكيد لن تتوقف عن استخدام مواد تنشر على مواقع التواصل الاجتماعي، وإن كانت تعلم حقيقة أنها لا تتمتع بالمصداقية والموثوقية!!

فهل يمكن أن تكون الدعاية التي تشارك فيها وسائل الإعلام تلك، بريئة؟ أم هي مشاركة ضمنية في حملات التشهير والتشويه التي يمارسها الغرب ضد سورية؟ إن هذه الحادثة وغيرها تثبت من جديد أن وسائل الإعلام الغربية لا تتورع عن انتهاك المبادئ الأساسية للإعلام عندما يتعلق الأمر بقضية سياسية ترتبط بالشرق الأوسط. والقارئ المتابع لا يزال يحمل في ذاكرته قصص التلفيق الغربي ضد دولنا وشعوبنا من كذبة القرن الحادي والعشرين حول أسلحة الدمار الشامل العراقية، إلى كذبة استخدام الجيش السوري السلاح الكيميائي، وليس انتهاءً بكذبة محاربة داعش اليوم وغداً …وغداً..

لذلك نقول لوسائل الإعلام تلك، وإن كنا نقرّ لها بالمهارة في تمرير الرسائل الإعلامية، أن تتوقف عن اتهام إعلامنا الوطني وكل إعلام مناهض لسواطير داعش و سياط الوهابية التكفيرية، بأنه إعلام سلطة بعيد عن المهنية والموضوعية، وندعوهم للتوقف أيضاً عن التفاخر بالمصداقية والاستقلالية.. فهي شعارات ترفعونها من أجل إخفاء تبعية مفرطة لصناع القرار الغربيين.

عبد الرحيم أحمد