مساحة حرة

الثورة الإيرانية .. قوة الإعجاز وقدرة الإنجاز

قبل سقوط عرش الطاووس بأيام ومع عودة الإمام‌ الخميني‌ من‌ منفاه‌ في‌ فرنسا إلي‌ إيران‌ سأله‌ احد الصحفيين‌ الأجانب‌: إي‌ نظام‌ ستقيمون‌ في‌ إيران‌ بعد سقوط‌ نظام‌ الشاه‌ ؟ فأجابه‌ الإمام‌ بكل‌ ثقة‌ “سنؤسس‌ جمهورية‌ إسلامية‌ كزيتونة‌ القرآن‌ الكريم‌، لا شرقية‌ ولا غربية‌”. ولم‌ تمض‌ سوى أيام‌ قلائل‌ بعد انتصار الثورة‌ الإسلامية‌ التي‌ هزت‌ العالم‌ وأسقطت‌ اعتى عروش‌ الاستبداد في‌ العصر الحديث‌، حتى‌ صوّت‌ الشعب‌ الإيراني‌ بأسره‌ في‌ استفتاء عام‌ لصالح‌ إقامة‌ نظام‌ الجمهورية‌ الإسلامية ولا يعني كلام الإمام أن إيران ما بعد الثورة ستقف على الحياد فهي بحكم تكوينها منحازة لمعسكر المستضعفين في الأرض وجاءت كما قال مفجر الثورة الإمام الخميني لتكون “سلاح المظلومين للقضاء على قوى الظلم والاستكبار في العالم”.

واليوم تقف الثورة الإسلامية الإيرانية وهي في السنة السادسة والثلاثين من عمرها على قمم من الإنجازات ما كان احد من خصومها يتوقع لها أن تصل إلى مرحلة من القوة والاقتدار تواجه بهما أعتى القوى في العالم وجها لوجه وندا لند جاعلة من إيران الرقم الصعب في المنطقة لا يمكن تجاوزه لا في حالة الحرب ولا في حالة السلم حتى يمكن القول انه طوال أكثر من مائة عام لم تجد قوى الهيمنة العالمية من تغيير أو تحول أو ثورة هزتها وزلزلت الأرض تحت أقدامها مثل الثورة الإسلامية في إيران صحيح أن الثورة البلشفية قبل قرن من الزمان كانت حدث العصر الذي غير مجرى التاريخ آنذاك لكن الصحيح أيضا أن بنيانها الداخلي كان هشا سمح للأعداء بإيقاف زخمها وتعطيل تقدمها والنخر من داخلها فأنهار نظامها السوفيتي دفعة واحدة بينما حافظت الثورة الإيرانية على صلابة داخلية مدهشة عصية على الاختراق مكنها من الاستمرار في الصعود وإعلاء البنيان ما جعلها تتبوأ مكانة إقليمية ودولية مهابة الجانب ومؤثرة في محيطها وخارج محيطها .

ويخطئ من يفسر قوة إيران بالأوراق التي جمعتها نتيجة الظروف الإقليمية والدولية وكأنما توفرت لها بمحض المصادفة لان مسيرة ثلاثة عقود ونيف دلت على أن قوتها وليدة عناصر وسياسات مكّنتها من القدرة على توظيف الظروف والمعطيات واستيعاب التحديات حيث أنشأت الثورة الإيرانية نظاماً صارماً حرم القوى الخارجية من امتلاك أوراق ضغط في الداخل الإيراني كما أقامت شكلاً من إشكال الديمقراطية يعطي الناخب دورا فاعلا في الحياة السياسية إلى درجة قدرته على إحداث تأثير في برامج الرؤساء والحكومات، والإدارات و يفخر الإيرانيون‌ بأنهم‌ تفوقوا على اعرق‌ النظم‌ الديمقراطية‌ في‌ العالم‌ بمشاركتهم‌ في‌ ما يقرب‌ الثلاثين ممارسة‌ انتخابية‌ نزيهة‌ طيلة‌ ثلاثة عقود من‌ الزمن‌ بما يؤكد حقيقة‌ تجذر مبادي‌ء وقيم‌ وأهداف‌ الثورة‌ الإسلامية‌ في‌ المجتمع‌ الإيراني‌، وحيوية‌ النهج‌ الثوري‌ في‌ الأجيال‌ المتعاقبة‌، وبتعبير آخر نقول‌: أن‌ الثورة‌ الإسلامية‌ تجاوزت‌ العرف‌ السياسي‌ السائد حول‌ تعارض‌ الفكر الثوري‌ الأحادي مع‌ قيم‌ التعددية‌ والحرية‌ والديمقراطية‌ لتؤسس‌ نمطاً جديدا في الحياة‌ السياسية‌ من‌ ابرز سماته‌ الحضور الشعبي‌ الفاعل‌ في‌ الساحة‌ و مشاركة‌ مختلف‌ قطاعات‌ المجتمع‌ في‌ عملية‌ صنع‌ القرار السياسي‌ وبناء مؤسسات دولة قوية تمتلك ناصية العلم والعصر ومفاعيله المادية جنبا إلى جنب مع القيم الروحية والدينية .

وعلى امتداد الفترة الزمنية التي تخللتها عملية التعبئة والتحريض والتنظيم للثورة ترعرع جيل متحمس من الشباب والكوادر الملتزمين بأفكارها المصممين على إسقاط الشاه وإسقاط الوجود الأمريكي في المنطقة فكان شعار “الموت لأمريكا ، الموت لإسرائيل” هو القاعدة الفكرية والسياسية لنشاط التيار الثوري الذي يهتدي بأفكار الخميني.. وقد أحدث هذا التيار تغييرات جوهرية في ترتيب طبقات المجتمع وثقافته، فلقد تمكن باقتدار أن يزيح المتغربين عن سدة قيادة الثقافة في المجتمع ويزيح علماء الدين الخاملين عن القيادة الروحية للمجتمع وأن يتبوأ قيادة النضال السياسي، وأظهر قيم الإسلام وعاداته وشعائره في عاصمة كانت تعتبر من أكثر عواصم المسلمين تقليداً للغرب وثقافته.

ولعل الأهمية العالمية للثورة الإيرانية تتجلى في توقيت انطلاقها ففي نهايات القرن العشرين حيث تراجع الفعل الثوري وانهارت أهم حواضنه وقلاعه بسقوط الاتحاد السوفيتي لمع شعاع الثورة الإيرانية كشهاب في ليل دامس فتمثلت قوه إعجازها في الإطاحة باعتى عروش الاستبداد المدعوم من أقوى قوة في العالم بزنود المستضعفين العزلاء وصدور بسطاء المجتمع العارية وتمثلت قدرة إنجازها بامتلاكها ناصية العلم والتكنولوجيا فدخلت بقوة إلى نادي الدول النووية وركبت قطار العواصم التي وصلت إلى الفضاء فسابقتها في إطلاق الأقمار الصناعية وبصناعة إيرانية صرفة وبهرت العالم في انجاز ما أنجزت في ظل العقوبات الدولية الشديدة والحصار الاقتصادي الخانق وأدهشت الجميع في إفشال كمائن الدول الغربية في مفاوضات ملفها النووي ومحاولاتهم سلبها حقوقها النووية.

أما قمة إنجازات الثورة الإيرانية وإعجازها فتجلت في إبداع معادلات جديدة وغير تقليدية لمواجهة المشروع الصهيوأمريكي في المنطقة فأنعشت الآمال بإمكانية الانتصار عليه وإسقاط أسطورة قوة العدو الإسرائيلي التي لا تقهر بعد عقود من الإحباط وانسداد الآفاق أمام العرب والمسلمين وإذا كان حريا أن ينسب الفضل لصاحبه فيعود الفضل في ترسيخ محور المقاومة ومنظومة المقاومة للثورة الإيرانية حيث بات هذا المحور السلاح الأمضى لقهر العدو الغاصب في وقت كادت فيه القضية الفلسطينية تضيع في متاهات كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة وخضم التحالفات السرية بين العدو الإسرائيلي وأنظمة العمالة العربية والخليجية دون أدنى خجل أو حياء وهذا الفعل المقاوم الممتد من طهران إلى دمشق مرورا بالعراق ولبنان وغزة غدا اليوم الصخرة المنيعة التي تتحطم عليها مشاريع مشغلي الأدوات الإرهابية ووحوش العصر من التكفيريين والظلاميين في المنطقة .

 

تركي صقر