اخترنا لك

الجيوبولتيك الكمومي

((مقدمة الترجمة.. منهج هذه القراءة يؤسس لفهم مختلف على مستوى الجيوبولتيك، وذلك بغض النظر عن الأمثلة، فالفكر الفلسفي – الفيزيائي المعتمد يفتح آفاقا مختلفة، والملاحظ أن إسقاط الموضوع منحاز بحكم الطبيعة البشرية، فالكاتب انتقى الأمثلة التي تشغل بال الإدارة الأمريكية، وبشكل ربما يوضح قلقا تجاه العلاقات الإقليمية في منظومة الشرق الأوسط القادمة))

من الجرأة التنبؤ بما سيؤول إليه شكل العالم خلال السنوات أو العقود القادمة، فلا توجد تصورات  أو معطيات أو بيانات يمكن الارتكاز عليها. كل ما نستطيع عمله هو رسم صورة غامضة في أحسن الأحوال. إنها بعد كل شيء، التجريب كغريزة إنسانية أساسية: بذل الجهد لرسم الصور الزاهية لعالمنا الحاضر وللتجارب السابقة بينما يصيبنا التشويش (الحول) والتردد ومن ثم الجبن عندما نضع صور المستقبل.

في عالم الاستخبارات والتخطيط العسكري، لا تتطلب التكهنات وفق القاعدة المألوفة الكثير من الجهد – محاكاة للعبة الحرب وفق محاور التهديد النووي الإيراني، وقوة الدولة الاسلامية التي على ما يبدو لا يمكن ردعها والمغامرات العسكرية لروسيا في أوروبا الشرقية – وذلك مقارنة مع تصور آخر لعالم تبدو فيه روسيا ضعيفة ومجزأة داخليا، ويتم احتواء الخطر الجهادي من خلال صراعاته الخاصة وإيران متحالفة مع الولايات المتحدة ضد تصاعد التهديد السني. في عالم الأعمال من الأبسط بناء قواعد التجارة والاستراتيجيات في بيئة مألوفة من انخفاض أسعار النفط وارتفاع أسعار الفائدة. الاستراتيجيون في العديد من المجالات مذنبون لاسترخائهم المفرط اليوم عبر استقراء الافتراضات الحالية لوصف المستقبل، ليجدوا أنفسهم فاقدو الحيلة عندما تضربهم أزمة كبيرة مستقبلا. تماما كما أخبرني جنرال أميركي كبير وبنوع من الإحباط: “دائماً لدينا خرائط وأساليب خاطئة عندما نذهب إلى الحرب”.

إذا كيف الخروج من فخ هذه العقلية وتطوير الثقة بالنفس لرسم المجموعات المعقولة وترتيب المجاهيل؟ يقدم ميكانيك الكم بعالم رباعي الأبعاد بعض التوجيهات، أو على الأقل نهح فلسفي لاسترايجيات التنبؤ. كان عند الفيزيائيين الرائعين مثل ألبرت اينشتاين، لويس دي بروجلى واروين شرودنجر هاجس حول العلاقة المعقدة بين الفضاء والزمن. وطالت المناظرة بين العلماء كيفية  تصرف الجسيمات الذرية وتحت الذرية ضمن أبعاد مختلفة، ولكن هناك بعض المبادئ في مجمل نظريات الكم ينبغي أن يتردد صداها مع أي شخص يتمتع بالمسؤولية عند التنبؤ بالأحداث العالمية.

مبادئ الكم والكيانات السياسية

وصف اينشتاين الزمكان كنسيج سلس يتشوه بفعل الأجسام في الكون. وبالنسبة لإينشتاين فإن الفصل بين الماضي والحاضر والمستقبل مجرد “استمرار عناد الوهم”. بنى ريتشارد فاينمان عالم الفيزياء الأمريكي المشهور والحائز على جائزة نوبل على أفكار أينشاتين، وكانت بعضا من أفضل أفكاره ظهرت كـ”خربشات” على المناديل خلال حفلات الكوكتيل وفي حانات ونوادي التعري،، وركز على كيفية انتقال الجسيم عبر موجات من النقطة أ إلى النقطة (ب) على طول عدد من المسارات المحتملة، مع احتمالية سعة لكل منها. وبعتبير آخر سوف ينتقل الجسيم بطريقة لاخطية؛ فسينتفل إلى الأعلى والأسفل وفي كافة الاتجاهات في الفضاء، وسيلتف على مسارات جسيم آخر ويصطدما ببعضهما أحيانا، ويقوي بعضهما أحيانا أو يلغي بعضهما الآخر تماما. وفق نظرية فاينمان فإن مجموع سعة المسارات المختلفة سيعطيك “المجموع عبر تاريخها” – وهوالمسار الذي يتبعه الجسيم في نهاية المطاف.

يمكن القول أن سلوك المجتمعات، والدول في طور الانتقال للحالة القومية (proto-states) والدول القومية (على الأقل في كوكبنا المتواضع والأرض كما نعرفها) يتبع مساراً مماثلاً. شهدنا صعود وهبوط دويلات وبلدان وامبراطوريات وفق أمواج وعلى طول ترددات متنوعة. قمة السعة لطرف معين يمكن أن تتقاطع مع نطاق صغير لطرف آخر مما يؤدي لتدميره. ويمكن تعزيز مسار جسيم واحد لآخر فتظهر امبرطوريات تجارية واسعة. في أمريكا اللاتينية يمكن للانتقال البطيء على مستوى الجيوبولتيك في العصر الحديث ان يؤدي إلى موجات طويلة تشبه موجات الراديو مقارنة مع موجات “غاما” التي يمكن أن تحدث في منطقة مضطربة للغاية مثل الشرق الأوسط.

تطبيق نظريات الكم: تركيا

إذا اعتمدنا الدولة القومية كمبدأ منظم للعصر الحديث (الاقرار بانتشار الحدود المصطنعة ووجود كلا من أمم بدول ودون دول)، فإن احتمالات مسار الدولة تبدو لا نهائية. ومع ذلك، فإن احتمال مسار الدولة يمكن بناؤه ليرسم صورة المستقبل.

الخطوة الأولى هي تحديد بعض الثوابت التي شكلت سلوك البلد على مر الزمن، بغض النظر عن هوية البلد أو أيديلوجيته (حتمية الحصول على منفذ بحري، والطبيعة الجبلية التي تتطلب رؤوس أموال كبيرة لنقل البضائع من النقطة “ألف” إلى النقطة “باء”، الطبيعة الخصبة التي بقدر ما توفر الثروة فإنها تجذب المنافسة). يشكل تاريخ البلاد مختبرا لتحليل كيف تعاملت الدولة مع تلك المقتضيات، وما هي الظروف التي رسمت المسار الخاص بها. ما هي الشروط التي وضعت الدولة في موقع الفشل، الازدهار، لتجنب التورط في صدام مع الدول الأكبر، للعيش في سلام نسبي؟ نأخذ الحقائق المعروفة والمتصورة في الماضي ونثريها بحكايات من الأدب والشعر والأغنية ونرسم صورة ملونة عن الحاضر محكومة بالماضي. يأتي بعد ذلك الجزء الصعب: امتلاك الشجاعة للتحديق في المستقبل مع انضباط كاف وخيال لمعرفة الاحتمالات. وفي هذه الممارسة فإن الاستقراء قاتل، والهاجس المرضي بالاستخبارات يمكن أن يؤدي لفقدان الرؤية.

لنأخذ تركيا على سبيل المثال. سمعنا لسنوات من النخبة السياسية في الولايات المتحدة، وأوروبا الشرقية والشرق الأوسط نُواح عن الهاجس التركي مع الحركة الإسلامية وأنها غير راغبة أو عاجزة على مطابقة الأفعال مع الأقوال في التعامل مع المنافسين الإقليميين مثل إيران وروسيا. تم تجاهل تركيا كلاعب إقليمي بطرق متعددة، وتم استهلاك دورها بمشاكلها الداخلية إضافة  لميل إيديولوجي تجاه الجماعات الإسلامية لتصبح مفيدة للغرب. ولكن ظهور تركيا مجددا لم يخضع لمسار خطي. هناك تموجات وتحولات على طول الطريق، وتشوه لمفهوم البلد ودورها الإقليمي الذي هو في نهاية المطاف متأثر بشكل عميق بموقعها كجسر بري بين أوروبا وآسيا، وبرنامج حماية البوابة بين البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط.

إذا كيف لنا أن نفسر أهمية أسبوع من الأحداث التي بدأتها تركيا بضربات جوية على داعش والمتمردين الأكراد في وقت تستعد لبسط منطقة عازلة في شمال سوريا – إجراءات تشكل خروجا حادا عن الوجل التركي الذي اعتاده العالم؟ علينا أن ننظر للماضي البعيد، عندما عبر الإسكندر الأكبر بوابات سيليسيان (منفذ جبلي بين جبال طوروس ولواء اسكندرون) للحصول على ميناء طبيعي في شرق البحر الأبيض المتوسط (مدينة الاسكندرون، ويعرف اليوم بالاسكندرونة) ومدينة أنطاكية القديمة لتفتح منطقة وادي نهر العاصي الخصبة ولاحقا باتجاه بلاد ما بين النهرين. نحن نتحرك من النقطة التي غزا فيها “الأتراك السلاجقة” حلب في القرن الحادي عشر وصولا إلى انهيار الإمبراطورية العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وعندما تستخدم الجمهورية التركية الحديثة الدبلوماسية فهي ربما تحشد من أجل استعادة الأراضي الاستراتيجية من أنطاكية والاسكندرون، التي تشكل اليوم مقاطعة هاتاي خط الحدود السورية التركية.

علينا  النظر في نفس الوقت إلى الحاضر. إن خريطة الحدود السورية مع تركيا المعاصرة تبدو غريبة جداً، مع أن عمق مقاطعة هاتاي ترتكز إلى خليج الاسكندرونة ولكنها تبدو وكأن عليها أن تمتد شرقا نحو حلب، العاصمة التجارية تاريخيا لشمال بلاد الشام، وبعد ذلك عبر الأراضي الكردية في شمال العراق، حيث تكمن ثروات النفط في كركوك وهو ما كان سابقا محافظة الموصل العثمانية.

لنحاول إلقاء نظرة طويلة نحو المستقبل. إن مصلحة تركيا في شمال سورية وشمال العراق ليست فكرة مجردة زرعتها مجموعة من المتعصبين الدينيين يطلقون على أنفسهم “الدولة الإسلامية”؛ فهي تجاوز وتقاطع وتعزيز لأطوال موجية جيوبولتيكية متعددة تخلق قوة خفية داعمة لأنقرة لإعادة توسيع الحدود الرسمية وغير الرسمية في تركيا خارج الأناضول. لفهم الى اي مدى يمكن ان تمتد تركيا وعند أي نقطة تعود لتتقلص مرة أخرى، علينا دراسة الأطوال الموجية المتقاطعة النابعة من بغداد ودمشق، وموسكو وواشنطن، وأربيل والرياض. ما دامت سوريا غارقة في حرب أهلية، فإن الطول الموجي سيكون أضعف من أن تتداخل مع طموحات تركيا في الشمال السوري، ولكن يمكن إعادة تأهيل الدور الإيراني ليتدخل عن طريق كردستان ويمنع تركيا من التمدد نحو الشرق. ومع عزم الولايات المتحدة تخفيف أعبائها في الشرق الأوسط وخلق توازن مع روسيا، فهي ستعزز الطول الموجي لتركية ليصل إلى نقطة معينة، بينما سيتم تشغيل ترددات أعلى من الاعبين السنة الآخرين مثل المملكة العربية السعودية للتدخل ضد تركيا في بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام. ومع امكانية بقاء القدرة الروسية على إقامة مشروع عسكري باتجاه الخارج، فإن التحركات التركية في أوروبا والقوقاز سيتم محاصرتها لبعض الوقت، ولكن تلك الدينامية ستتحول عندما سيتم استهلاك روسيا بالتناقضات الداخلية ويصبح لتركية مساحة أكبر للتمدد عبر منطقة البحر الأسود.

التفكير أبعد من الحدود

هذا الرسم لتركيا لن يكون ثابتا أو قطعيا. أنه، وبوضوح حاسم، منتج يضع عامل تصفية على العدسة ليضع مسار الدولة ضمن رؤية أكثر وضوحاً. يجب اختبار الافتراضات التي تم تشكيلها يوميا عبر المعلومات الاستخباراتية الواردة التي تجعل من تحسينات التنبؤ في متناول اليد. إن التفسير الكمومي للعالم سيقول لنا بعدم وجود حتمية، ولا يمكننا الوصول للتأكد من أن نتيجة معينة ستحدث أو لا استناداً إلى المعلومات المحدودة التي نملكها. يمكننا فقط تحديد احتمال لحدوث شيء، وهذا الاحتمال سيتطور مع مرور الوقت. وكما يقول ستيفن هوكينج “يبدو أن اينشتاين كان.. مخطئا عندما قال: ‘الله لا يلعب النرد’. بالتأكيد يلعب الله النرد، بل أنه في بعض الأحيان يربكنا فيرمي النرد في مكان لا نستطيع مشاهدته”.

نستطيع تطبيق نفس العملية على الانحسار والتمدد في الشرق الأقصى، مع انبعاث اليابان ردا على أصداء وجود الصين القوية والتقسيم المصطنع لكوريا لتصبح بينهما. أو الدفع والجذب بين فرنسا وألمانيا في البر الرئيسي الأوروبي كقوى جذب تستوعب مشروع الاتحاد الأوروبي.

نحن نرى في كثير من الأحيان المستقبل كما نرى الماضي- من خلال عدسة مشوهة بفعل الزمن الحاضر. وهذا العيب في غريزة الإنسان علينا محاولة التغلب عليه. سيتم تطبيق القيود، وسيتم تعيين الاحتمالات. ولكن أيا كان الوقت، الاتجاه أو البعد علينا عند التنبؤ بالأحداث الجيوبولوتيكية أن نكون موجودين في نفس الوقت في الماضي والحاضر والمستقبل للتحضير لهذا العالم الذي ما زال علينا أن نعرفه.

 

الكاتب : Reva Bhalla

ترجمة: مازن بلال – موقع “سوية الغد” http://souriaalghad.me/

الرابط الأصلي المقال:

https://www.stratfor.com/weekly/quantum-geopolitics