مساحة حرة

الذكرى السابعة والستين لميلاد حزب البعث ومواجهة معركة الإقصاء!!

 بعد تجربة نضالية عمرها أكثر من ستة عقود ، يواجه اليوم حزب البعث في عيده السابع والستين على الأرض حرباً عالمية بامتياز تقودها الولايات المتحدة وأتباعها في العالم الغربي وعملائها في المنطقة من أعراب وعثمانيين ، ويقوم بتنفيذها عصابات إرهابية مجمعة من أكثر من ثمانين دولة عربية وأجنبية ، يُمارسون أبشع أنواع الإرهاب في حربٍ ظالمة لإقصاء البعث عن الساحة السورية والعربية بعد أن سبق وتم تدمير العراق الذي كان يحكمه نفس الحزب لكن بعقلية و إرادة مختلفة كلياً ، بل ومتناقضة مع المنهج المعتمد في سورية منذ قيام الحركة التصحيحية المجيدة بقيادة الرئيس الراحل حافظ الأسد ” طيب الله ثراه ” ، واليوم لم تستهدف تلك الحرب الفكر العربي القومي فحسب ، بل كذلك أسس العيش المشترك بين مكونات المجتمع السوري لتعميم الحروب الطائفية والإثنية وإغراق المنطقة في دوامة العنف الأبدي خدمة للمشروع الصهيو – أمريكي الجديد المعد للسيطرة على المنطقة ، لكن دمشق التي كانت ولم تزل وستبقى قلعة العرب الصامدة وقلب العروبة النابض وقائدة مشروع الممانعة والمقاومة في وجه كافة المشاريع الاستعمارية التي تستهدف المنطقة العربية  .

  ونحن نحتفي بذكرى ميلاد حزب البعث العربي الاشتراكي لا بد لنا من وقفة تحليلية ونقدية للواقع التنظيمي ومنهجية العمل الحزبي لحزب يُعد من أعرق الأحزاب السياسية على الساحة العربية ، وإنعكسات ذلك على دوره في مواجهة معركة مصيرية تهدف لتدمير سورية وإقصاء البعث عن قيادة الدولة فيها .

    بداية يجب أن نقر بأن حزب البعث ولد من رحم معاناة وآلام الشعوب العربية بُعيد الاستقلال والتحرر من الانتداب الغربي ( الفرنسي في سورية ) ، وجاءت أهدافه ومبادئه ملبية لتطلعات الشعوب العربية الواسعة ومنسجمة مع أمنياتها المستقبلية في دولة موحدة وقوية قادرة على حماية استقلالها ، وقادرة على بناء حضارتها العربية الخاصة وفق أسس من الحرية والعدالة وتكافؤ الفرص بين أفرادها ، كما أن أدبيات البعث التي تراكمت خلال تاريخه النضالي وخاصة خطب وكلمات القائد الخالد حافظ الأسد ومن بعده ما قدمه من إضافات فكرية السيد الرئيس بشار الأسد هي غنية وثرة بما يدغدغ أحلام وطموحات الغالبية  من أبناء الجماهير العربية ، وهذا ما أعطى للحزب حضوراً مميزاً على الساحة المحلية والعربية بآنٍ معاً ، ومنحه شعبية كبيرة أربكت منافسيه من الأحزاب السياسية الأخرى التي تطمح لأخذ مكانه ودوره في السلطة في سورية  ، وكذلك أزعجت أعداءه الحقيقيين في الخارج الذين يجهدون لإقصائه وتبديله بتيارات سياسية دينية تكفيرية متطرفة موالية لهم وتستطيع أن تخدم مشاريعهم الاستعمارية التقسيمية للمنطقة .

   لا نُخف بأن مرحلة نشوء البعث وفترة وصوله إلى السلطة كانتا مواتيين لتحقيق القسم الأكبر من الأهداف خلال العقود الأولى من عمر الثورة ( على الأقل في القضايا الداخلية )، لكن عدم وضوح الرؤية لدى قيادته وانشغال بعضها بالسلطة وبهرجتها والجري خلف ملذاتها بما حملته من تداخل في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية أفقدت التنظيم بعضاً من تماسكه وجوهره وأخرته في تنفيذ خططه الإستراتيجية لصالح الحركة اليومية  لقيادة مؤسسات الدولة ، وترافق ذلك مع إهمال غير متعمد للجانب الاجتماعي والتثقيفي أعطى انطباعات مغايرة للمنهج الأساسي الذي يهدف إلى ترسيخ عقيدة البعث واستمرار مشروعه القومي في الاتساع على الساحة العربية ، كما أن تقديم وتفضيل العمل السياسي القومي – في كثير من الأحيان – على الجانب الاقتصادي والاجتماعي الوطني خلق فرصة مواتية لبعض التيارات الوطنية والحزبية لطرح نفسها كبديل وطني أكثر آماناً لجماهير الشعب التي بدأت ترى مسافات شاسعة تفصل بينها وبين قيادات  الحزب الوسطى والعليا في الشارع .

  من المؤكد بأن الأزمة التي يواجهها حزب البعث في سورية هذه الأيام تختلف كلياً عن المطبات التي تعرض لها خلال الستين سنة السابقة ، لأن هذه المعركة تهدف إلى تدمير وتخريب كل ما بناه الحزب خلال تاريخه النضالي بكامله ليس على المستوى الفكري والعقائدي والمنهجي فحسب ، بل كذلك على المستوى الاقتصادي والاستراتيجي ، ومخططٌ لهذه الحرب أن تؤدي في النهاية إلى إلغاء حقبة البعث بكل ما تحمله من إنجازات ، وقد بدأت بمطالب شعبية بسيطة وصلت للمطالبة بإلغاء المادة الثامنة من دستور الجمهورية العربية السورية التي كانت تُعطي للحزب حق استفراده في قيادة الدولة والمجتمع ، وكانت ردة الفعل المباشرة من قيادة البعث تأييدها لتغيير الدستور بالكامل ، وترك مبدأ قيادة الدولة والمجتمع لصناديق الاقتراع التي هي صاحبة كلمة الحسم في تحديد الحزب الذي يفوز بالأغلبية في المجالس المحلية والوطنية ويتسلم السلطة بناءً عليه  ، ومع ذلك استطاع البعث أن يُثبت حقه في القيادة بقوة نتائج الانتخابات  سواء في المجالس المحلية أو التشريعية ، ولم يجد غضاضة في التناغم والتنسيق مع بقية التيارات الوطنية التي استطاعت تحقيق حضور نسبي في الانتخابات ، لأن قيادة البعث ومنذ قيام الحركة التصحيحية عام 1970 كانت منفتحة على بقية  الأحزاب الأخرى والمستقلين للمشاركة الفعالة في قيادة الدولة واستلام مواقع في السلطة العليا سواء في الحكومة أو في المجالس التمثيلية ولم تكن في يوم من الأيام لديها أية مخاوف من انخفاض شعبية الحزب في الشارع  .

  وهنا لا بد لنا من كلمة حق نقولها للتاريخ ونحن على قناعة مطلقة بها ، وبالرغم من السلبيات الكثيرة التي ظهرت هنا وهناك بعد استلام حزب البعث للسلطة في سورية ، وظهور بعض الممارسات غير المنسجمة مع فكر الحزب وعقيدته ، فإن الانجازات الكبيرة والضخمة التي حققتها ثورة البعث في سورية على المستوى الفكري والعقائدي والتربية والتعليم والجيش ، وما تم تحقيقه في الجانب الاقتصادي والخدمي ، هو ضخم جداً وهو سر صمود سورية شعباً وحكومة وجيشاً في وجه حرب الإقصاء هذه التي دخلت عامها الرابع دون أن تتمكن من تحقيق أي هدف مما رسم لها ، فسورية اليوم لا تُقارن بأية دولة في المنطقة من حيث البنية التحتية الضخمة والاقتصاد الاستراتيجي المدروس ، والجيش العقائدي المنظم ، والشعب الواعي الموحد على الرغم من تعدد أطيافه الدينية والعرقية فهو يُشكل حالة من الوعي المعرفي والحضاري العالية المستوى بين شعوب العالم بفضل التثقيف العقائدي الذي تبناه حزب البعث العربي الاشتراكي في المدارس والجامعات والجيش والمنظمات الشعبية والنقابات المهنية ، وإن مرونة القيادة وحكمتها في التعاطي مع الأحداث لجعل الخسائر في حدها الأدنى هو السبب الرئيس في إطالة أمد الحرب وتأخير الحسم ، وإن خروج جزء لا يتعدى  10 % من مجموع الشعب السوري بما في ذلك ما يُسمون أنفسهم معارضة الخارج عن هذه الوحدة ، لا يُشكل مخاوف حقيقية لمستقبل سورية ، وإن ما بناه حزب البعث ليس بمقدور أية قوة في العالم القضاء عليه أو تدميره ، لأنه مبني على قاعدة صلبة !!

  إن الحراك التنظيمي والفكري الذي عاشه البعث في الأيام القليلة السابقة لذكرى ميلاده من خلال مؤتمراته السنوية ( للفرق والشعب والفروع ) وما جرى فيها من حوارات ومناقشات جريئة لتوصيف الواقع ووضع تصورات موضوعية للخروج نحو مستقبل أفضل ، يحمل الكثير من الدلالات على قدرة البعث ومرونته في إعادة ترميم بنيته العامة في الوقت الذي يعتبره الأعداء أصبح بحكم المنتهي سياسياً ، ويؤكد على الرصيد الغني للبعث سواء في كوادره القيادية الواعية ، وبقناعة الجماهير الشعبية فيه كقوة سياسية قادرة على مواجهة المشاريع الاستعمارية المعادية ، والخروج من الأزمة القائمة نحو مستقبل آمن ، و أن النصر قادم لا محالة على أيادي بواسل جيشنا العربي البطل ، ومع ذلك نقر بأن الحزب وقع في أخطاء تقديرية في مرحلة الترميم الأخيرة حصل خلالها هفوات تنظيمية ، عكست حالة من العجز الذاتي في تحديد الأشخاص الأفضل والأقدر على إيجاد مقاربة منطقية للحاجات الإسعافية مع الواقع الجديد بالسرعة المطلوبة ، سيما أن قطار بناء سورية الجديدة وضع على السكة الصحيحة ونحن لم نزل في المعركة ، وقد بينت النتائج الأولية أن العديد من بين ركابه من هم غير قادرين على إثبات أنفسهم بقوة العلم والمعرفة واليد النظيفة ( فروع وشعب ) ، وليس من مجال هنا للتشريفات العائلية والاجتماعية ، وكانت آمال الجماهير البعثية والشعبية على أن يسود مبدأ استبعاد مساحي الجوخ والمتكئين على علاقات مشبوهة ، لكنهم حضروا بقوة في العديد من المواقع ، وهذا ما سيؤخر إنجاز مشروع البناء الجديد ، ولا بدَّ للقيادة من أن تُعيد النظر في العديد من المواقع الميدانية خلال فترات قصيرة لإقصاء هؤلاء من قطار إعادة البناء لأنه لا يجوز أن يحمل في عرباته غير الشرفاء والمخلصين الذين يقع على عاتقهم متابعة المسيرة خلف القائد العربي الشامخ شموخ قاسيون الرئيس بشار الأسد .

                                                      محمد عبد الكريم مصطفى