مساحة حرة

القمّـــــــــة المهــزلـــــــــة

والمهزلة من الهزْل، والهُزال أيضاً. وكلاهما كانا حاضراً بغزارة في وسائل التواصل الاجتماعي عند الملايين من الشباب العربي الذين هالهم المظهر الاحتفالي بطابعه الأسطوري الخرافي الفولكلوري لزيارة ترامب إلى السعودية، فلاذوا بهذه الوسائل تعبيراً عن الهزْل والهزء بتلك المظاهر، وبالصورة النمطية المأساوية للخليجي الطالع إلى الحداثة مستهلكاً معطياتها مسلوب الإرادة يبحث عن هوية ووعي وانتماء وقد استبدّ به سلطان البترودولار.

ولا شكّ في أن شرائح واسعة من أشقائنا في الخليج شاركوا بشكل من الأشكال أشقاءهم في الأقطار العربية الأخرى القلق والرأي في هذه المهزلة التاريخية، فكانوا على الضفة الأخرى لمطامح آل سعود المضحكة -على الأقل. وها هو رأي عام عروبي يتشكّل ويُتّفق فيه على أن القمة أخطر من هزيمة 1967، فالروابط معروفة بين النكبة والمهزلة.

وللتاريخ، وللواقع، فإن الذاكرة تعود بنا إلى الصورة النمطية للبذخ الامبراطوري السخيف في هكذا مواقف. فلا ينسى القارىء العربي، ولا الإسلامي معه، قصة الزفاف الأسطوري منذ أكثر من 1200 عام حين “بنى الخليفة المأمون ببوران بنت وزيره الحسن بن سهل…، ونزل بمن معه من وجوه الأمراء والرؤساء وأكابر بني هاشم، فدخل ببوران في ليلة عظيمة، وقد أُشعلت بين يديه شموع العنبر، ونُثِر على رأسه الدرّ والجوهر، فوق حصر منسوجة بالذهب الأحمر…” وكان الإنفاق الذي أرهق الخلافة العباسية، وجعل الخلفاء من بعد المأمون ألعوبة حتى سقوط بغداد والخلافة معها.

ومن المؤسف أن يظن الحكام الذين توافدوا من البلدان التي تزيد عن الخمسين إلى وليمة البترودولار الوضيعة أن القمة المهزلة لن تولّد ردات فعل عند الشعوب العربية والإسلامية وغيرها، فمن الواضح أن ما حدث فيها من استخفاف بعقول الناس، وبإرادة الأحرار ووعيهم، سيولّد حالة استنهاض للقوى الكامنة في المجتمعات العربية والإسلامية تندد بما ساد في القمة من خِفّة، وعدم توازن، وغياب العقلانية والوعي. والانضباطية، حيث الألاعيب بالتراث وبالحاضر، بالسيف وبالقهوة وبرقصة “العرضة”… إلخ.

لم يكن ترامب المأزوم في بلاده يحلم ومعه إدارته بهذا التفريط والهزال من المتهافتين إلى القمة، ولم يكن أحدٌ يصدق أن حكام الوهابية سيحصرهم الرعب من الرجل ويدفعهم إلى هذه الخفة والتفريط التاريخي بمقدرات الأمة وبقضاياها، وبحقوق الشعب ومستقبله الذي صار مرهوناً بتسديد مئات المليارات. والأصعب من ذلك هذا الانبطاح التاريخي الجارح لكرامة العربي ولأخلاق المسلم، ما يُفضي إلى التأكّد من أن المملكة الوهابية هي كيان وظيفي لا غير.

فلم يحدث في تاريخ العلاقات بين الدول ما حدث في القمة المهزلة من بهلوانيات، وسيرك، وشعور العبيد أمام الأسياد، بل الآلهة – فماذا سيكتب التاريخ عن هكذا قمة، وعن هكذا هدر للكرامة وللوعي وللموروث وللميراث؟!.

لقد انبهر الصهاينة في فلسطين المحتلة بما جرى في الرياض من جنون، وأعادوا ترامب إلى رشده ونبّهوه إلى مخاطر صفقات الأسلحة، وأكرموه بإمكانية عدم اعتراضهم عليها، فعدّل الحلف الثلاثي في الرياض من حلف أمريكي عربي إسلامي، إلى حلف أكثر جدوى في الأرض المحتلة: إسرائيلي عربي إسلامي، حيث القلق نفسه من محور المقاومة العربية الإسلامية،.. وتبنّى ترامب ونتنياهو وابن سعود معهما مقاربة إقليمية جديدة تتحدث بشكل مبهم عن الكثير من الدول، و”عن أرض واسعة جداً”، بعد تخلّي عدد كبير من الدول العربية والإسلامية عن اعتبار “إسرائيل” عدواً.

لن يكون العرب والمسلمون في العالم لقمة سائغة أمام مطامع الاستراتيجية الصهيوأمريكية – الرجعية العربية، وهم يدركون المخاطر التي نجمت عن وعود أوباما في مطلع عهده بزيارته إلى مصر في حزيران 2009 حين خطب في جامعة القاهرة: “أتيت للبحث عن بداية جديدة بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي استناداً إلى الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة” وكانت بعد سنة “بداية جديدة” حقّاً من الدم والنار لم تنته بعد.

مع ترامب في الرياض يبدو أننا أمام بداية أخرى أكثر خطراً، شعارها الزائف تحقيق الأمن والاستقرار في العالم. وهدفها الحقيقي دعم الإرهاب الصهيوني والتكفيري، ونشر الطائفية، ومواجهة المقاومة والمشروع الوطني والقومي العربي.

لن ينجح الهدف، وسيزداد التهكّم على قمة الرياض، ولن يستطيع آل سعود ولا حلفاؤهم إنجاز الوعد، ولا الحصول على الموعود.. وها هو الوعيد حاضر وأكثر قدرة وعزماً.

د. عبد اللطيف عمران