اخترنا لك

المشروع القومي العربي..التحديات..والآفاق (1)

في ظل استقطاب الشباب العربي عبر طروحات إسلاموية متطرفة، وفي مواجهة العمل المتواصل لاستنزاف الأجيال الجديدة فكرياً وعقائدياً، وصولاً إلى تحييدها، إن لم نقل توظيفها، في عملية استغلال بشعة لضعف رؤيتها السياسية والتاريخية والفكرية، يبدو المشروع القومي العربي لدى البعض حلماً سريالياً أو تغريداً خارج السرب أو سباحة عكس التيار. إنه زمن صعب تعيشه أمتنا العربية، حيث تغفل الهويات القلقة عن بناء غد خال من الآلام يؤسس لـ “امبراطورية” ميثاقية لا قهرية تنبني على السياسات لا الانتماءات والهويات.. “امبراطورية عربية” شعوبها مستعدة لدفع الثمن الباهظ لقيامتها بدءاً من لحظة تحرير فلسطين، وصولاً إلى بناء إنسان عربي متحرر من كل أشكال التبعية والعبودية لـ “التابووات” الدينية والاجتماعية.

استقطاب الشباب العربي للأفكار المتطرفة

هذه الطروحات كانت موضوع الندوة الحوارية التي أقامها “المركز الوطني للأبحاث واستطلاع الرأي” بالتعاون مع “اللجنة الشعبية العربية السورية لدعم الشعب الفلسطيني ومقاومة المشروع الصهيوني” تحت عنوان “المشروع القومي العربي – التحديات.. والآفاق” على مدرج دار البعث، والتي أدارها د.عبد اللطيف عمران، مدير عام دار البعث، المدير المسؤول للمركز، حيث استهل الندوة بعرض للجهود التي بذلت لعقد الندوة والأوراق المطروحة والأفكار الرئيسية وآليات متابعة النقاش عبر وسائل الاتصال الالكتروني، محذراً من المحاولات الدؤوبة للتحالف الغربي الأطلسي والصهيوني والرجعي العربي لاستقطاب الشباب العربي إلى أحضان التيارات الإسلاموية المتطرفة بما يخدم أهداف الغرب بضرب أسس المشروع القومي العربي، وتقويض مرتكزاته.

الهويات القلقة

الباحث والمفكر غسان الشامي، مقدم برنامج “أجراس المشرق” في قناة الميادين، قدم في ورقته عرضاً تاريخياً للمراحل التي مرت بها سورية بدءاً بسورية الأولى “درة تاج المشرق”، مروراً بسورية الثانية “سكونديا” أو “شيلي سيريا” وعاصمتها أفاميا، وسورية الفينيقية أو فينيقيا اللبنانية، وصولاً إلى سيريامانيا أو ماغنا – سورية الكبرى، وهو تعبير تاريخي جيوسياسي. معرجاً على تأكيد المسعودي بأن الرومان كانوا يدعون العرب بعبيد سارة نكاية بهاجر وابنها إسماعيل، وأكد أن دولة الأقباط كانت تكتب بالآرامية بدليل إرسالهم رسالة مكتوبة بها إلى اليونانيين، إضافة إلى أن تدمر كلمة آرامية تعني الحكمة، وجذور أهلها من شبه الجزيرة العربية، والأسرة الحاكمة فيها إبان عهد زنوبيا عربية، وكانت تستخدم الآرامية أيضاً.

وقد كان للفتح الإسلامي دور في دخول العربية خاصة بعد دخول دمشق وبغداد، وقد تم الفتح بيسر، وباتت منطقة المشرق ابتداء من فترة حكم الخليفة الراشدي علي ابن أبي طالب مركز إشعاع حضاري وفكري، فيما كان الحج الروحي إلى مكة، مؤكداً أن رفض أبناء المنطقة لكل محاولات تخريب العروبة بدءاً من التتريك مروراً بالتغريب الأوروبي، وصولاً إلى المشروع الأمريكي الذي فشل بدوره بدق أسافين الفرقة الطائفية والعرقية والإثنية، مؤكداً أن التغيير وصناعة المستقبل تمران عبر المعرفة والثقافة، وأن جمع أكثر من 20 دولة يحتاج إلى مقاربة فكرية وسياسية مختلفة، وقال: من الممكن لأي دولة أن تضم عدة ديانات فيما لا يوجد ما يمكن قبوله من الجميع كدين دولة، مشدداً على طرح سؤال فحواه: هل نبقى بلاد الهويات القلقة أم أن نقدم لأبنائنا غداً خالياً من الآلام؟!.

السياسات لا الانتماءات والهويات

الباحث والمفكر اللبناني أنيس النقاش أكد أن ما نعانيه اليوم عانته شعوب أخرى، وأن الإنسان يحمل هويات متعددة ليست كلها بمستوى الفعل نفسه، فهو يغلّب إحداها تبعاً لخوفه وهواجسه ورجائه، فيرتفع منسوب الوطنية حينما يستشعر الإنسان الخوف على وطنه ويكون رجاؤه برفعة هذا الوطن. ومسألة الهويات متحركة وليست ثابتة، والهوية التي نعرفها اليوم هي نتاج الخروج من الانتماءات الصغيرة البائدة كالعشائرية والقبلية.. إلخ.. وعندما ظنت قومية في أوروبا أنها أعلى شأناً من باقي القوميات قامت الحرب كتعبير عن صدام القوميات.. وأدى موت هذه القوميات خلال الحربين العالميتين إلى إفراز نوع جديد من الانتماء بما لا ينفي الانتماء القومي، وما يحصل اليوم في أوكرانيا يؤكد النزوع للانضمام إلى فضاء أوسع لجهة الاتحاد الأوروبي أو روسيا على حساب القومية الأوكرانية الأضيق.. لقد كانت امبراطوريات المنطقة السائدة أوسع بكثير من كل كيانات المنطقة، لكنها كانت امبراطوريات قهرية حكمت بسطوة القوة، وما نشهده اليوم انقلاب للصورة بين الامبراطورية القهرية وبناء امبراطورية قائمة على المصالح الاقتصادية والاجتماعية وغيرها من الأسس.. والهوية القومية ليست نهاية القصة..

وأضاف: لا يمكن إعادة بناء الأمن القومي الإقليمي بأيدي العرب وحدهم، وينبغي أن نكون واقعيين في رسم السياسات، فهل مشكلة هذه المنطقة في تغليب صراع الهويات أم في تغليب لقاء السياسات؟ وأول علاج هو القفز على الهويات باتجاه السياسات، فروسيا مثلاً فيها أكثر من 15 جمهورية وقومياتها مختلفة وقوتها بوحدتها معاً في إطار جامع.. نريد امبراطورية ميثاقية لا امبراطورية قهرية.. وبين الخوف والرجاء نبحث عن الرجاء، وعلاج أمراض المنطقة يكون بالسياسات لا بالانتماءات والهويات.

المركز الوطني للأبحاث واستطلاع الرأي