ثقافة وفن

الوحدة والجميع والمنديل..معا

الرجل الذي لم يغير سرواله ولا قميصه ولا حذاءه منذ أكثر من عشر سنوات، والذي يخرج كل يوم صباحا من بيته في نفس التوقيت السابعة والربع صباحا والذي صار حديث الجيران منذ فترة قريبة، كان يوما ما كما يقول الجيران، مديرا محترما لإحدى المدارس، ثم توفت زوجته فجأة، لم يبد أي مشاعر تدل على حالته، حتى أن وجهه بقي حياديا بشكل غريب وكأن من ماتت لم تكن رفيقته لـ 45 عاما، لكن الحياة توقفت به عند ذاك الزمان، هكذا ودون مقدمات مرضية نفسية كانت أم فيزيولوجية، فبقي معلقا في حبال تلك الأيام، ولم يغادرها، حتى أنه بقي بالثياب ذاتها التي كان يرتديها حينها، يقوم كل يوم بغسل ملابسه ونشرها ليلا، وفي الصباح يكويها ويرتديها ثم يخرج، حاملا عصاه ذاتها وعلى رأسه قبعة “روسية” ربيعية، ويقال أنه يمضي يوميا إلى مكان قريب من جامعة دمشق، يجلس فيه أكثر من 3 ساعات، ثم يعود إلى بيته، إلا أنه قطع العادة هذا الصباح أيضا ومنذ 7 صباحات مرت، لم تره الجارات وحتى البقال أبو محمود، الذي كان ما يزال يرد عليه السلام بـ “وعليكم السلام أستاذنا المحترم”، وفي الوقت الذي ظن الجميع أنه ربما توفي في بيته- هذا كان آخر ما خطر في بالهم- كما تقول السيدة سعاد، لكنها قالت فيما بعد، أن موته وحيدا في سريره البارد، هو أكثر ما خطر في بالها، حتى أنها بكت عدة مرات وهي نائمة، وعندما سألها زوجها لماذا تبكين؟أجابته عن هواجسها بخصوص الرجل المحترم، بقيت تعاني عدة ليال طويلة بعدها من غيرة زوجها الذي لم يصدق أنها لم تكن واقعة في حب المدير السابق، “لو رأيتموها تبكي بهذه الحرقة لقلتم مثلما قلت، كانت تبكي وكأنها ستموت بعد لحظة، والله اشتهيت أن أموت كرمى أن تبكي علي بنفس الطريقة” قال زوجها، الذي اعتذر فيما بعد لها، لكنها لم تقبل اعتذاره حتى اليوم، إذا في الوقت الذي ظن فيه الجميع أن السيد المدير السابق المحترم، قد توفي في سريره البارد وحيدا إلا من ذكرى زوجته التي رفض أن يعلق لها أي صورة في البيت، فاجأ صديقنا الصباح والطيور والجارات الثرثارات والرجل الغيور والبقال والطبيعة ذاتها تفاجأت، بخروجه على عادته الصباحية ذاتها بنفس التوقيت، دون أي تغيير في مظهره العام، إلا أن السيدة سعاد لاحظت أن ثيابه صارت فضفاضة جدا عليه، لكنها لم تقل هذا لأحد كي لا تعود للمعاناة من غيرة زوجها، الرجل كان يسير ببطء أكثر من المعتاد، وفي يده منديل أخضر مجعد جدا، يرفعه بجهد إلى مستوى أنفه، يشمه يقف قليلا ثم يتابع سيره، عرفت الجارات فيما بعد من أين، لا أحد يدري، أو ربما يكن هن من اخترعن الحكاية التي عرفنها، عن فترة غياب السيد المدير السابق عن عادته اليومية: يقال أنه كان قد استسلم أخيرا للموت وانتظره في سريره، لكنه استيقظ ذات صباح وهو يشعر بالنشاط، وفي يده كان ثمة منديل أخضر مكوي جيدا، تفوح منه رائحة بيت وعائلة وأولاد ومطبخ وزوجة حبيبة، لا أحد يعلم من أين المنديل جاء، لكن يتذكر السيد أبو محمود البقال، أن هذا المنديل غالبا هو المنديل الذي كانت تحمله زوجة المدير المحترم، والتي توفيت منذ عشر سنوات، حتى أنه أكد للجميع، بأنه شاهد زوجها يوم دفنها بأم عينه، يضع منديل زوجته في يدها المتيبسة، قبل أن ينهال عليها التراب.
تمّام علي بركات