ثقافة وفن

تشاركيَّات علْمية: المفاهيم والعمليات العلْمية العامة

من المُلائم أن نضمّ إلى الجهود السابقة، من ذات الصِنف والفترة والمنظور الفلسفي، دراسة «ف. س. غوتّ» ــ وهو المحرِّر الرئيس في مجلة «العلوم الفلسفية» الشَهرية المتخصصة (وليس «قضايا الفلسفة») ــ والتي جاءت بعنوان: «حول الجهاز المفْهومي للعلْم المعاصر»(1) [قضايا الفلسفة… ع8 لعام 1982، ص80 ــ 87] وفيها إشارات إلى كتابِه المشْتَرك مع أورْسول: المفاهيم العلْمية ــ العامة ودورُها في الاستعراف، موسكو، 1975، وإلى مجموعة أخرى صادرة في «لينينغراد» عام 1982 حول «المفاهيم العلْمية ــ العامة والجدل….»، والتي فيها ومنْها ــ كمجموعة ــ دراسةُ «آ. ي. ويموف» : المفاهيم العلْمية ــ العامة وبعض اتجاهات تطور الفلسفة…

ومن النتائج التي يخلص إليها المؤلِّف غوت ما يلي [ص87 ــ الأخيرة في الدراسة]: دراسة الجهاز المقولي للعلم المعاصر تقود إلى خلاصة مفادها أنه توجد في هذا الجهاز مفاهيم علْمية ــ عامّة، وكذلك مقولات وطرق علْمية ــ عامة. والفلاسفة الدارسون للعمليّات التكاملية في العلْم ولجهازِه المفهومي، في أغلبيَّتِهم يعتبرون من المُثْبَت وجودُ مفاهيم علْمية ــ عامة، وأشكال ووسائل استعراف علْمية ــ عامة.

وكما توجد مفاهيم ومقولات مشْتَركة وبَين ــ اختصاصية وصولاً إلى المفاهيم والمقولات العلْمية ــ العامة وتجاوزاً إلى المعرفية والاستعرافية العامة، أو حتى ما هو أعم من ذلك ــ المقولات العامة الشاملة، كذلك توجد المنظومات الشاملة، والنماذج/ الموديلات، والنمْذجة/ المودلة…إلخ ممَّا يعبِّر عن لحظات تداخل وترابط العلوم وتفاعلها وصولاً إلى لحظات التوحيد والوحدة تفاعلياً (وليس اندماجياً)، ثمة مثلاً بعض الجهود في حقل نماذج المعرفة العلْمية وعلاقة الفلسفة بها تفسيراً وتأويلاً (سادوفْسْكي) باستخدام طريقة الموْدَلة/ النمْذجة، بحيث يَبدْوْ تاريخ تطور منهج العلم في القرن العشرين بأكملِه، من وجهة النظر هذه، بمثابة تبديل متتابع لنماذج/ موديلات معينة بأخرى في مجال المعرفة العلْمية، تطويراً وتحسيناً: شيءٌ يُذكرك، ولا شكّ، بإرْشاديّة/ باراديْغْما/ الفيلسوف «كون» في رؤيتِه لِــ «بنية الثورات العلْمية»، فتأتي «باراديغماه» بمثابة النماذج/الموديلات في المنظوميّات اللاحقة المعاصرة. وبالتوازي مع تبديل النماذج/ الباراديغْمات/ العلْمية كانت تتبدل بالمقابل، مع التعايُش أحياناً، النظريَّات (أو النُظَيريّات) الفلسفية للمعرفة العلْمية على اختلافِها؛ ويبرز سؤالٌ واضح وهام حول العلاقة والترابُط بين الموديلات/النماذج/ البارديغمات/ ــ من جهة (في تطور وتحوُّل وتبدّل المعرفة العلْمية)، وبين النظريات/ النُظَيريّات الفلسفية لهذه المعرفة ــ من جهة أخرى؛ أو العلاقة المتبادلة بين نماذج المعرفة العلمية وتأويلاتِها الفلسفية.

ويحدّد «ف. ن. سادوفسكي» بأنها محاولة إثبات أن نموذجاً/ موديلاً واحداً معيناً للمعرفة العلْمية قد يلقى تأويلات فلسفية متباينة؛ ثم يدخل في بعض تفاصيل موديلات/ نماذج هذه المعرفة العلْمية ومنها: الاستنتاجية؛ والتنوع/ التعدّد (فيريفيكيْشين) والتفلْسُف (فلْسيفيكيْشين) كنماذج/ موديلات لتقييم/ تقويم النظريات العلْمية [وضعتُ خطوطاً أو تأشيرات تحت كلمات ستذكِّرك حتماً بآراء بوبّر و«العقلانية النقْدية» التي بقيتْ منتقَدَةً «سوفييتياً» لعقودٍ طويلة] ــ وهذا مثال على تَبَنٍّ ضمْني خجول من باحث «سوفييتي» مختص بالفلسفة والمنظوميَّات معاً ــ تبنيّهِ لآراء وتصورات غربية في تطور العلْم (كوْن) وفي تأويل هذا التطور فلسفياً (التعدد والتفلْسُف كما لدى بوبر وغيره…) مع تغيير التسمية في الحالة الأولى من باراديغما إلى موديل، ومع إغفال الأصل في الحالة الثانية وتجنُّب التورُّط بصِدام عقائدي/إيديولوجي فلسفي مع الزملاء الجيران في الوطن، وكي لا تلحق به تهمة الفكر البورجوازي والفلسفة الغربية المعادية…إلخ.

وليس هو الوحيد على الساحة بهذه المواصفات المخاتِلة الحذِرة، بل قد تجد محاوَلات أكثرَ جرأةً يمرّ بها عبوراً وإسناداً واستشهاداً في أدبيّات بلدِهِ «السوفييتيّة» ذاتها، مثلاً: يولينا:

«نماذج/ مُثُل العلْم وثنائية/ تعدُّدية (بْلوراليْزْم) النظريات الميتافيزيائية» [مجلة قضايا الفلسفة، ع3/1982….] والعنوان تعبير آخر بطريقةٍ ثانية عن ذات ما أراده سادوفسكي وما ينسجم مع الفكر الفلسفي ــ العلْمي (أو الفلسفوْ ــ علْمي) الغربي المنقود أو المنْتَقد في العادة: إنه مداوَرةُ التناغم والوِفاق الفكري ــ العلْمي ــ العقائدي فعلياً. وستجد أن الاختلافات هي في الصياغة ولعبة الكلمات: بْلوراليزْم مقابل فيريفيكيشين (فيريفيكاتِصيا)؛ والميتافيزيائية (كبديل دلالي غربي عادةً) مقابل الفلسفية، مُثُل هنا ــ أخيراً ــ مقابل موديلات/ نماذج قبل ذلك، أو باراديغمات قبل ذلك كلِه ــ مِن قبْل ومِن بَعْد.

والتشابُه أو التطابُق في المصطلحات، غرباً ــ شرقاً، مع تنوع وتمايُز الصياغات والمفردات التعبيرية ليس هو الشيء، كله، بل التداخل والتوافُق ينفذ إلى عمق الطروحات والأفكار، خذْ العنوان ذاتَه: «التعدد والتفلسُف كموديلات/نماذج تقييم/تقويم…إلخ». هي ذات فكرة بوبر بإخضاع العلم ونظرياتِه لمبْضع النقد والمراجَعة والتصحيح لبلوغ الحقيقة والاقتراب منها إضافياً باستمرار: قابلية النقد والتصحيح كمعْيار للعلْمية ولليقينيّة/ التحقُّق/ المصداقية/ عنده، أي كمعيار للتقييم والتقويم كما نجد الفكرة هنا بصياغتِها الخاصة.

وكما عالج سادوفسْكي الموديلات/النماذج/ التعدُّدية والتفلْسُفيّة والاستنتاجية في المعرفة العلْمية، فإنه بحث أيضاً موديل الإرجاع (ريدوكْشن = ريدوكْتْصِيا) عند دراسة المعرفة العلمية، مع انتقادِه محقّاً (مثل كثيرين مختصين آخرين) لِمحاولات إرجاع البيولوجيا إلى الفيزياء في تفاعلهما، ولاسيما على مثال البيوفيزياء، وسيكون المثالُ بليغاً في إيضاح وجهة النظر هذه كموقف علمي أصيل ليس شرقياً فقط في الفلسفة «السوفييتية»، بل وفي الغرب أيضاً، الذي انْوجد فيه مَنْ يحترم المركَّب ويوقِّر المعقَّد و«ينزِّهه» عن التبسيط والانحلال والإرجاع إلى ما هو أدنى منه وأقلّ تراتبيةً باسم وبمزاعم العلْمية الرصينة، وهنا إشارة وإسناد إلى «ف. آ. إينْغيلْغارْدْتْ» ــ الذي يوجد مَنْ يشاطره الآراء غربياً ولا شكّ ــ في كتابِه: التكاملية (إيْنْتيغْراتيزْم) ــ هي الطريق من البسيط إلى المعقَّد في استعراف ظواهر الحياة، موسكو، 1970 وغيره… وموديل الإرجاع كاسم لاتجاه أوْ مذهب يصبح إرجاعيّة (ريدوكْتشيونيْزْم = ريدوكْتصْيونيزْم) ويضعُه سادوفسكي بموازاة وبملازمة مصطلح آخر مرافِق له دائماً عنده بمعنى الاقتباس والتمثُّل وما إلى ذلك: ديريفاتْصْيونيزْم، فيتشكَّل عنده مصطلح ثنائي مركَّب منهما كجناحَين: الإرْجاعية ــ الاقتباسيّة، وكل ما يورده بعد ذلك في هذا الخصوص يوحي بإعجابِه بطروحات غربية قويَّة سادت في هذا الشأنْ وحتى الآن، وحاولتْ طويلاً إرجاع كل شيء وكل علْم أو معرفة إلى أبسط العلوم والمكوّنات، التي غالباً ما كانت وتكون الفيزياء وأخواتها، فتجد طروحاتِه التفصيلية ضرباً منْ مُغازلة التبْسيطية/ الإرجاعية/ «الاقتباسية»، التي لطالما ميَّزتْ المذاهب الفلسفية الوضْعية بأشكالها الكثيرة (التي بدورها تتباين كثيراً فيما بينها): وضْعية ــ وضْعية منطقية ــ «وضْعية تحليلية»(2) التحليلية المنطقية (أو المنطقية التحليلية) ــ الوضْعية الجديدة ــ ما بَعد الوضْعية ــ وقد تجد سوبّر وضْعية أيضاً إذا قارنْت وقرنْت هذا الخط وهذا المخطط بما رصدناه ودرسْناه جيداً منذ قرابة عقدَين: المجتمع الصناعي ß ثم: قبل الصناعي à، الصناعي الناضج، الصناعي الموحَّد، بَعْد الصناعي، الصناعي الأعلى (سوبّر صناعي)….إلخ. وستجد هذا المخطط ذاته (سْخيما) في ميادين أخرى كثيرة، ومنها الحداثة والحداثية/ الحداثوية: ما قبْل وما بَعْد وسوبّر…إلخ؛ البنيوية وما بَعدها.. وهكذا. كيف يُغازل سادوفسكي الإرجاعية/ الاقتباسية التي ميّزت ووسمتْ جزْءاً ومرحلةً معتَبَرين من فكر وفلسفة الغرب؟ ــ إنه يُفصّل ويُفرّع في هذه الإرجاعية/ الاقتباسية «المحترَمة» كما يلي: آ ــ الوراثية؛ ب ــ الأنطولوجية؛ ج ــ الغْنوسيولوجية ــ الميتودولوجية (المعرفية ــ المنْهجية). ويختتم بفكرةٍ مفادُها أنَّه من الممكن جداً «هجْر الموديلات/النماذج/ مِن نظرية فلسفية إلى نظرية أخرى منها. وهذه حالات جرت مراراً في مسار تطور منْهج العلْم/ميتودولوجياه»(3).

ما أردتُ الإشارة إليه في الخِتَام ــ عدا الملاحظات والتقويمات العديدة للآراء السابقة ــ هو أنَّ التوجُّه الحديث، والمعاصر بالأخصّ، الذي يسير نحو تركُّب العلوم وتكاملها وتفاعلها في الميل الأشمل، وصوْب بين ــ الاختصاصية وتعدّدية ــ الاختصاص: هذا كله يسير بالعلم وفروعه في غير الاتجاه المذكور، ــ رياح العلم المعاصر تجري بما لا تشتهي سفُن التبسيطية والإرجاعية والتحليلية الغافلة المغفلة التي كانت تَجِدُ لَها مرجعيةً ومرتَكَزاً في ظاهرة تخصص وتفرع العلوم وتفاضلها أساساً، رغم أنها ليست بالمرجعية ولا بالمرتكز، فما بالُك مع الميل والتوجُّه المعاكس والمعدِّل والموازن له ــ أعني التكامل والتكتُّل والتركُّب والتعقُّد والمنظومية المركبة المعقَّدة…إلأخ؟ نحن أمام ظواهر جديدة تماماً ومنطق آخر وميتودولوجيا مختلفة تسْتحثّ كلُّها فلسفة أُخرى ورؤيةً من نوع مختلف أكثر تميزاً وأصالةً نوعيةً مِن أيّ فكْر فلسفي أوْ علْمي أوْ فكْر ــ علْمي سابق.

باختصار فمجْريات تطور العلم المعاصر هي بعكس ونقيض التبسيطية والإرجاعية والتحليلية، فهي تركُّبية وتركيبية ومنظومية تفاعلية صاعدة إلى الأعلى وحثيثة إلى الأمام.

هذه النتيجة لا تعني عدم الحاجة بتاتاً إلى التبسيطية/ الإرجاعية، بل يمكن الإفادة منها كلحظْة معرفية، كمرحلة أو محطَّة في إطار الوسائل المعرفية الشاملة والأبعد والأعمق، مثلما أنَّ تحليل النظم (التحليل المنظومي)، لا يتناقض ولا يتعارض مع إنشائِها وتركيبها: تُحِلّل وبَعْدَها قد تُركّب.

وكانت تجربتي الفكرية بهذا المعنى حقيقيَّة منذ أقدم إرهاصاتِها ــ أواسط الستّينيات وفي عمر الفتوَّة قمتُ بتحليل المنظومة الغْنوسيولوجية المادية الجدلية، ثم بتحليل غْنوسيولوجيا البْراغماتية، ولاحظْتُ لقاءَهما في واحدة بناءِ كليهما وركْنِه الأساس: التطبيق/ الحاجة/ المصالح والاهتمامات ــ هنا، والعمل والممارسة/المنفعة…إلخ هناك، وبالتالي أصبح واضحاً وجود نقاط تماسّ ولقاء جدِّية وجذْرية، رغم المظاهر الخارجية الخدّاعة بوجود تعارضات وتضاربات فقط، وأمكن التوليف بين منظومتين معرفيَّتَين (غْنوسيولوجيَّتَين) للتوليف والتركيب ولإنشاء منظومة جديدة ــ غنوسيولوجيا أعلى وبمثابة منظومة جديدة معقَّدة مركَّبة.

وذاتُ الشيء فعلْتُه وفي ذات الفترة المبكرة وفي نفس الكتاب ــ «أفكار متواضعة» ــ مع إرجاعيةٍ وتبسيطيةٍ أخرى، بالتناظر والمقارنة بين الماركسية والبرجسونية في ميدان بنْية المجتمع وعوامل تحوُّلِه التاريخية: في المادية التاريخية والفهم المادي للتاريخ ــ من جهة، وفي البرجسونية ــ من جهةٍ أخرى: لحظْتُ وأكدْتُ وجود إرجاعية/ تبسيطية مادية تاريخية: التشكلية التي فيها وعي اجتماعي وواقع اجتماعي، وفيها بنْية فوقية وبنْية تحتية، وفيها علاقات إنتاج ووسائل إنتاج تجدها راجعة بمصطلحاتِها الركْنية هذه وبمكوِّناتِها البنيْوية إلى وسائل الإنتاج أصلاً، وهذه تُبسَّط مركزياً أكثر ومحورياً أكثر إلى وسائل العمل، وهذه بدورها إلى أدوات العمل، وهذه أخيراً تعود إلى التقنية في نهاية المطاف كوحدة مرجعية/ تبسيطية و«ذَرّة» للبنى الاجتماعية والتغير الاجتماعي/ التاريخي؛ ثم لحظتُ نصوصاً موثقة لدى برجسون بذات الفحوى، رغم أن النظرة الأوّليّة وللوهلة الأولى تشي بغرابة المنظومتَين واغترابهما المتبادل إحداهما عن الأخرى ــ «شوْ جاب لَجاب»، أين فلسفة برجسون من فلسفة ماركس؟ انظر كم تتباين وتتفارق وتتنازع المنظومتان!! كلاَّ فنصوص برجسون الموثَّقة التي أَحتفظ بها كخلاصات مِن أعمالِه الأصْلية مذْ ذاك ـأواسطَ الستينيَّات ــ تنطق بوضوح بوجود لقاءات وتماسَّات «مستحيلة»، كما نظنّ للوهلة الأولى، فهو يعبّر عن أنَّ هذه التقنية (الملْتَقَطة المحترَمة هناك) هي ذاتُها ــ في نهاية المَطاف ــ ما يُقرر التغيُّر الاجتماعي ومسارات التاريخ، بل واتجاهاتِه ــ أيْ أنه يُنشئ بلغتهِ الخاصة ومن منظومتِه الأخرى ومن منْطلقاتِه المُبايِنة ذاتَ النتيجة الماركسية المادية الجدلية التاريخية: الحتمية التاريخية القائمة على، والمرتكزة إلى، التقنية (كأداة عمل) في نهاية المطاف: ذات المنطق وذات النتيجة، وكما ترى معي فهنا أيضاً منظومتان إرجاعيَّتان/ تبسيطيَّتان في ميدان آخر (غير المعرفة والغْنوسيولوجيا) وهما تلتقيان عند الحَجَرة الركنية الأوَّلية للبناءَين ــ عند التقنية كأداة عمل وكنواة للبناء الشامِخ «المضلِّل» بأكملِه، ولمسار واتجاهات التاريخ كلِه، رغم المخاتلات التضليلية الأخرى، وهذا التحليل التبسيطي الإرجاعي الكاشف لعناصر الوحدة والتلاقي سيقودُك مرةً أخرى، وفي حقل آخر، إلى إمكان التنسيق والتقريب والتوحيد بين منظومتَين من منظور جديد أيضاً، فتحصل على ما يشبه المنظومة المركَّبة والمعقَّدة الجديدة بدورها، فيأتي تركيبٌ بعد تحليل ــ وتوليفٌ بعد تفكيك.

وما الحكمة مِن ذلك كلِه؟ إنها تتجاوز التحليل والتبسيط والإرجاعية والتفكيك، وتتجاوز التركيب والتوليف المعقّد، وتتجاوز المنهجيات والميتودولوجيات، إلى ما بَعْدها وما في العمق: في الرؤْية الفلسفية وفي العقيدة ــ في الأبعاد الرؤْيوية العقائدية: ما سِرّ لِقاء الخصوم والنقائض في الحالتَين ــ من أقصى شرق العالم إلى أقصى غربِه؟ ــ إنّها ذاتُها حَجَرة بناء «البنَّائِين الأحرار» (الماسونِيِّين) ــ أصحاب الحِرَف والمهَن عبر التاريخ: البروليتاريا في الشرْق الشيوعي لزمن، مقابل عمال الإصلاحية الاجتماعية والاشتراكية الدولية الماسونية في الغرب لأكثر من زمن وحتى الآن، وتتساءل بعد ذلك لماذا تحل كافة المصائب وتقع على رأس الشعوب العربية والأمة العربية (تلك الفأس بالرأس) قبل غيرهم وبالدرجة الأولى؟ ولماذا تنتقل التلْمودية ــ الصهيونية ــ الماسونية من نصرٍ إلى نصر؟ حلِّل وركِّب وتفكَّرْ وتأمَّلْ جذْرياً لتجد الجواب: هنا لا ينفع الاقتصار على مرحلةٍ أو لحظةٍ أو محطةٍ معرفية وحيدة ويتيمْة: تحليل وتفكيك وتبسيط وإرجاعية… تابعْ السير أماماً لتجد النقائض والمتعارضات التي «صرعونا» بها: ديالكتيك وميتافيزيك ــ اشتراكية وليبيرالية ــ حتمية واحتمالية ــ نظرية معرفة (ابستمولوجيا ــ وغْنوسيولوجيا) إلى آخر القائمة، وقد نبَتت في حضن واحد، ورُعيت وغُذِّيتْ مِن مركز واحد، وستجد اعترافاً صريحاً بليغاً بحقيقةٍ من هذا النوع في الأدبيات التلمودية الصهيونية قديماً وحديثاً، في بروتوكولات حكماء صهيون وفي غيرها على السَّواء: نحن من أنشأ التيارات الاشتراكية والليبرالية فلا تغترّوا بها كثيراً، أما نحن فلنا ملك ومن سلالة داوود.

إن لقاء «التقنية» الساحرة (كخاتم علاء الدين أوْ مصباحِه) ماركسياً وبرجسونياً وغيرهما هو ما اعتبرْتُه أحد التعابير عن أساس النظريات المختلفة الصناعوية (وما قبل وما بَعد)، والتقْنوية (وقبلاً وبَعْداً)، والتقانوية/ التكنولوجية (وقبْلاً ــ وبَعداً) والتكنوقراطيّة… واصلةً إلى أحدث طبعاتها في التكنوقراطيا الكوكبية (فعلياً وتوثيقاً لا تنظيريّاً وتأمُّلاً). وفي «البروتوكولات» لحكماء صهيون يمثّلون القضية صراحةً ومحاكاةً بآلهة الهند متعددة الأطراف ــ الأيدي والأرجل ــ لجسد واحد، وبالطبع ففي هذه الأطراف كثير من «اليمين» وكثير من «اليسار» أيضاً. وكانت الصناعويات/التقنيويات/ التقانويات/التكنوقراطيات توحّد المجتمعات المتقدمة أساساً بوصفِها مجتمعات «صناعية» متقدمة.

***

الهوامش

(1) ف. س. غوتّ: حول الجهاز المفهومي للعلْم المعاصر؛ مجلة «قضايا الفلسفة» الأكاديمية الشَهرية، العدد 8 لِعام 1982 (ع8/1982)، ص80 ــ 87.

(2) «نَصْل أُوْكام».

(3) ف.ن. سادوفسْكي: موديلات المعرفة العلْمية وتأْويلاتُها الفلسفية، ص38 ــ 48 من مجلة «قضايا الفلسفة»، العدد6، لعام 1983 (ع6/1983).

 

د. معن النقري