مساحة حرة

جولة متأنية في ألغاز الانقلاب التركي وارتداداته

 

ما إن حطت طائرة رجب أردوغان في مطار أتاتورك في اسطنبول بعد دوران أكثر من ساعتين في فضائه حتى قال جملته الأولى: «إن محاولة الانقلاب هبة من الله»، ما يعني أنه كان ينتظر هذه اللحظة بفارغ الصبر ليتمكن من تنفيذ خطته المؤجلة والمضمرة

وهي الخطة «الإخوانية» داخل تركيا التي طالما كانت تسعى إلى طحن عظام جميع المعارضين لشخص «السلطان» أردوغان واستئصالهم لكي ينفرد بالسلطة ويتحكم تحكماً مطلقاً بالبلاد والعباد، ولا أدل على ذلك من أنه بعد ساعات قليلة على وقوع الانقلاب سرعان ما خرجت من أدراج السلطان المذعور وقبل أي تحقيقات أو تحريات قوائم اتهام معدّة سلفاً بأسماء عشرات الآلاف من الجنرالات والأدميرالات وعناصر الجيش والدرك والشرطة والقضاة وأساتذة الجامعات والمدرسين والمعلمين وطالت حملة الاعتقالات والإقالات والتطهير كل من هب ودب حيث ما زالت مستمرة ولم تنته بعد وبصورة تعيد إلى الأذهان حملات التطهير المكارثية في أمريكا أو محاكم التفتيش المعروفة في إسبانيا.

مما لاشك فيه أن انقلاب الساعات الخمس ليلة الخامس عشر من تموز الجاري ترك ألغازاً كثيرة وطرح أسئلة أكثر، الأمر الذي استدعى قراءات متعددة حاولت الإحاطة بهذا الحدث الزلزالي وارتداداته وأبعاد ما جرى بعده وانعكاسات ذلك على علاقات تركيا مع دول الجوار والعالم، ولاسيما أن هذا الانقلاب جاء غير مكتمل ولا يشبه الانقلابات السابقة التي قام بها الجيش التركي من حيث الإتقان والمهنية وأتى في خضم حرب إرهابية اكتوى العالم بنيرانها وأحد أطرافها الأساسيين نظام أردوغان ما جعل الناس تفرح وتبتهج للوهلة الأولى بسقوطه وإن كان ذلك تسرعاً واستعجالاً ونظرة سطحية لحدث كبير ومعقد من هذا النوع، لكن المآسي والويلات التي خلفتها جرائم هذا السفاح في سورية والعراق ومصر وليبيا لم تترك مجالاً للتروي وانتظار النتائج.

نعود إلى صلب الموضوع، إلى أهم التساؤلات التي ما زالت من دون أجوبة حاسمة وتشكل ألغازاً تحيط بهذا الانقلاب الخاطف وهي:

– لماذا حلّقت طائرة أردوغان أكثر من ساعتين في فضاء مطار أتاتورك في اسطنبول ولم تجبرها مقاتلات الانقلابيين على الهبوط أو لم تسقطها، وكان بالإمكان ذلك؟؟ وهل كانت إدارة تزويد الوقود التي يستعملها «التحالف الدولي» ويشرف عليها الأميركيون في قاعدة «إنجيرليك»، على صلة بالحركة الانقلابية لأنها زودت طائراتهم بالوقود؟ ولماذا التخبط الإعلامي الرسمي، فوكالة «الأناضول» نشرت تقريراً عاجلاً يقول إن قائد القوات الجوية السابق أكين أوزتورك اعترف بقيادة المحاولة الانقلابية، لتنشر فوراً إفادته المناقضة «لست أنا من دبر الانقلاب وقاده، ولست أدري من قام بذلك، حسب خبرتي أعتقد أن الكيان الموازي هو من نفذ هذه العملية».

– لماذا لم يتهم أردوغان جهات خارجية وخاصة إدارة أوباما بالوقوف وراء المحاولة الفاشلة؟ رغم أنه اتهم مباشرة خصمه اللدود فتح الله غولن الموجود في بنسلفانيا في الولايات المتحدة الأمريكية وطلب منها تسليمه ولم تستجب حتى الآن، وهل يمكن أن يتحرك هذا الخصم العنيد ضد النظام التركي الحليف لواشنطن والعضو المهم في حلف «ناتو» وبيده مقاليد ثاني أكبر جيش في الأطلسي من دون إشارة أو ضوء أخضر من البيت الأبيض أو «البنتاغون» أم إنه قد تكون لدى أردوغان معلومات، أو تحليل للمعلومات الخفية المتداولة في الغرف المظلمة تدل على ذلك، جعلته يدرك أن وجوده في السلطة أصبح مزعجاً لتلك الأطراف الخارجية التي يعنيها، ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية بعد سقوط مشروع «الشرق الأوسط الجديد»! وفي اعتقاد أردوغان أن تلك الجهات إذا تخلت عن ذلك المشروع، فإن تركيا بزعامته تستطيع المضي قدماً في تنفيذه؟!

– لماذا لم يفضح أردوغان دور قاعدة «إنجرليك» في الانقلاب علماً بأن الكثيرين حتى من وسائل الإعلام التركية سموه انقلاب «إنجرليك»، ووفقاً لمعلومات مسرّبة ومنشورة أكدت أن محاولة الانقلاب الأخيرة كانت بتنسيق أميركي خالص تم داخل قاعدة «إنجيرليك» الجوية، إذ حسب هذه المعلومات فإن 12 لقاء سرياً حصل بين الجنرال حسن بولات «قائد سلاح المدرعات في الجيش التركي» وضباط أمريكان، وأن مخطط الانقلاب سمي «مخطط الألف قنبلة» أي حدد الأبنية التي ستقصف، ومن سيعتقل، ومن سيحل مكان من؟ وقد تم ضبط الوثائق المتعلقة بذلك.

– لماذا فشل الانقلاب ووراءه الولايات المتحدة الأمريكية كما تشير كل المعلومات المتوافرة وهذا في حد ذاته يشكل أحد الألغاز الكبرى لانقلاب الساعات الخمس أو انقلاب «إنجر ليك» كما تحلو للبعض تسميته، وهل يكفي القول إن السبب الأساس كان عدم وجود دعم واسع للانقلاب داخل القوات المسلحة، أو عدم توافر تأييد شعبي له أيضاً ذلك أن كل الأحزاب السياسية، والنقابات، والمجتمع المدني، واتحادات رجال الأعمال ووسائل الإعلام لم تؤيد الانقلابيين.

– لماذا وقع الانقلاب رغم أن بعضهم يتحدث عن أن أردوغان كان على علم بالانقلاب قبل ساعتين من وقوعه وكان على علم بالتخطيط له، فهل تركه يقع ليقوّي شوكته لاحقاً؟ أليس هذا الأمر محتملاً ووارداً بعد أن كان أردوغان نفسه قد حذر في 29/6/2016 من ذلك بالقول: إن أتباع فتح الله غولن في كل مكان بما في ذلك في القصر الجمهوري، وأنا أوصيهم بالاستقالة وإلا فسوف أتخذ بحقهم الإجراءات اللازمة.. لكن أردوغان في الأيام الأخيرة عاد ليتهم أجهزة مخابراته بالتقصير وقد يكون هذا تمهيداً لحملة تصفية وتطهير في صفوف هذه الأجهزة وإعادة هيكليتها وفق المرحلة الأردوغانية القادمة.

وكما كانت الألغاز والقراءات كثيرة حول وقوع الانقلاب فإن التوقعات والتكهنات حول الإجراءات التي بدأ أردوغان بتنفيذ فصولها تباعاً كثيرة وتزداد كل يوم.. ولكن السؤال المبدئي وقبل أي سؤال آخر هل إجراءات التصفيات الجماعية التي يقوم بها الرئيس أردوغان في المؤسسات الرسمية والخاصة وفي المجتمع، هي دليل قوة، أم دليل ضعف، أم هو شعور بنشوة الانتصار وفشل خصومه ؟ والجواب واضح لا يحتاج عناء كبيراً وهو أنه سلوك حاكم مذعور، إن لم نقل إنه استمرار لسلوك «سلطان» أحمق تسيطر عليه عقلية «جنون العظمة»، وهو ما يطرح سؤالاً مهماً إلى أي مدى سيذهب أردوغان في التصفيات، وخاصة بعد موافقة البرلمان على قانون الطوارئ الذي رفعه؟ ويرى كثيرون أنه سيستمر إلى آخر مدى باعتبار أن أردوغان هو ربيب ثقافة دينية تؤمن بأنها وحدها «على حق»، وكل من يخالفها الرأي «على باطل» وهذا المبدأ يستتبع المبدأ الثاني وهو إلغاء الآخر! وهذا يعني أن أردوغان سيستمر في التصفيات ما دام قادراً عليها وشعار المرحلة هو: «اليوم تصفية غولن وأنصاره، وغداً تصفية كل المعارضين».

ما يهمنا في الأمر كله معرفة هل سيستفيد أردوغان من دروس الانقلاب وعبره ويدرك كيف استخدمته الولايات المتحدة بيدقاً لتنفيذ مشروع «الشرق الأوسط الكبير»، وعندما سقط هذا المشروع نتيجة الصمود الأسطوري لجيش سورية وشعبها ودماء أبطالها، حاولت واشنطن التخلص منه واعتباره كبش فداء فهل يدرك أردوغان أن الذين كانوا على صلة وثيقة بالانقلاب هم أقرب حلفائه إليه من واشنطن وصولا إلى الرياض والخليج؟

إن تركيا الآن على مفترق طرق خطير وأي خطأ في مراجعة السياسات الأردوغانية السابقة المتهورة سيكون مقامرة قاتلة، ستقود البلاد إلى المجهول، أو على الأقل تجعلها وقوداً في نار المنطقة، نار تسوقها إلى التفتت والشرذمة، كما هو جوهر المشروع الأميركي الصهيوني لعموم دول المنطقة، ولعل أهم مراجعة ينبغي أن تقوم بها حكومة أردوغان بعد الانقلاب الفاشل، تتجلى في وقف التدخل التركي السافر في سورية وفي المشهد الميداني السوري تحديداً منذ أكثر من خمس سنوات الذي ارتد على نظام أنقرة وبالاً وخيبة وخذلاناً، وأول بند في هذه المراجعة أن تراجع مستوى الدعم التركي للتنظيمات الإرهابية، ثم وقف الدعم وإقفال الحدود، كمرحلة لابد منها، فهل يتجاوب أردوغان مع طرح الرئيس فلاديمير بوتين حول ذلك في اللقاء القريب المرتقب بينهما.. ويجنب تركيا ونظامه أهوال وويلات المزيد من الهزات والارتدادات القادمة الكارثية؟؟ من الصعب التفاؤل بتصرفات وسلوك حاكم أنقرة.. ولكن لننتظر فنرى!!

د. تركي صقر