ثقافة وفنسلايد

“حبق” في حضرة الغياب

بينما نحن في عطلة، وذلك في اليوم الذي تحمل غرته صفتكم الكريمة “شهداء” نتابع حياتنا، نتشاجر مع خيالاتنا ونفاصل الحياة اليوم على سعر هذا الرمق أو ذاك، نشطف الأدراج ونضب الشتاء في صناديق الأسرة والحقائب، نتذمر من تغير الطقس والمزاج وحالات الهذيان التي كنا اعتدناها، وصار لزاما علينا أن نعتاد عليها ولكن وفق روائحها الجديدة، في هذا اليوم كما في كان البارحة و سيكون في الغد، وأنتم تغفون تحت ثرى الوطن الذي جدتم لأجله بالأرواح -يالعظيم كرمكم كيف له أن يرد؟- لكم أنتم الفضل في كوننا نفعل كل تلك تلك الأشياء البسيطة وربما التافهة أمام ما فعلتموه، فماذا يعني أن أي شيء مهم عظم، أمام إبهار وأعجاز ما فعلتموه؟ حتى في الكلام والمقالات والخطابات التي تتلى في يومكم، وأنتم كل الزمان من أول الدهر إلى أخر الحكاية، وهذه معضلة حقيقية إن كنتم تعلمون، فأي مفردات مهما بلغت درجة كمالها وعظم بليغ نظمها وبيانها، و أي كلام يستطيع أن يجود ولو بالنزر القليل من إيفائكم حقكم؟ أنتم يا من أعرتم الله جماجمكم وتدتم في الأرض قدمكم، وللوطن بذلتم طهر دمائكم فتزول الدنيا ولا تزولون ولا نزول، وعلى عتبات نظراتكم تقف الكرامة تشحذ معنىً ترتديه بعد أن غيّرتم مرة واحدة وإلى الأبد معنى المجد والكرامة، ليصير الفخر آية في مصحف من نور آلائكم، والكرامة عروس أبدية الشباب، للدهر الذي أنتم من رفع أعمدته الشاهقة وبنى صرحه الخالد.
أي كلام أو أفعال تليق بكم، وأنتم من جعلكم “الله” جيرانه ” بل احياء عند ربهم”؟.
أي قصيدة أو رواية، أي مقال أو كلام عفوي، بمقدوره أن يطل ولو للحظة على طهركم وأنتم من كتب بالدم وخطّ بأقلام الروح حيوات السوريين كل السوريين، من شرق البلاد إلى غربها ومن جنوبها إلى شمالها.
إن الكلام كل الكلام ليتشرّف ويسعد ويحيا خالداً خلود الزمن، وهو يحاول عبثا أن يضيء ولو لحظة من إشراق وهجكم الطالع من رُبا وجبال هذا الوطن.
اليوم أكثر من أي وقت مضى، تقف أرواحنا على رؤوس أصابعها وهي تتلو أسماءكم المنيرة على مسامع التاريخ بأن سجّل في ديوان الخالدين أن من السوريين رجالاً، وطؤوا الموت بالموت، ومنحوا الحياة جريانها في نسغ كل السوريين، بينما لا تزال أرواحكم تقف على كل الجبهات كما لو أنها صباح الأبد، يبدّد عتمة وحلكة ليالٍ طويلة، كان لها أن تدوم أبداً، نازعة من وجوه أطفالنا وملامح أمهاتنا، علامات البهاء وصيرورة الحياة ولونها ونكهة الفخر فيها، لولا أن قبضتم بأيدي الطهر منكم على كل حبة تراب من هذا الوطن، نعِمت بما لم ينعُم به أي تراب آخر، نعمت بفوح عبقكم الندي ومسك دمائكم الورد وهي تنداح كموّال عذب المطالع، بهيّ القوافي، محيلاً رماد الحروب إلى جنان معلّقة بين السماء والأرض، نرنو إليها اليوم ونقول: أبت أن تذلّ النفوس الكرام، فعليكم السلام.
تمرّ السنون والشهور، تتقلب الأحوال والدهور، وأنتم منذ صبيحة ذلك اليوم الذي نُصبت فيه في كل ساحات الوطن يوم السادس من أيار عام 1916، مشانق الكرامة التي ارتقتها أرواحكم هاتفة “بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب” حتى اللحظة التي ترتسم فيها هذه الحروف، باقون على عهودكم الدامية، لا يطلع فجر علينا إلا إذا أذِنت له دماؤكم بأن يشرق، ولا تغيب شمس أمان على بيوتنا وأرواحنا وأطفالنا، إلا إذا أسدلت فوّهات بنادقكم وحبق ضحكاتكم قميص الليل برداً وسلاماً على كل أشكال الحياة التي عشناها بفضلكم رافعي الرؤوس شامخي الجبهات، مطمئنين أننا إن أسلمنا عيوننا لوسن النوم، فإنكم أنتم الساهرون وأنتم الحماة وأنتم المجد.
قليل عليكم كل الكلام، بخس أمام ندرة أرواحكم كل العطاء، يا مَن ترفعون السماء فوقنا فلا تقع علينا، وتمهّدون طريق الحياة لأولادنا وأهلينا فلا تميد بنا الدروب.
تمّام علي بركات