line1مساحة حرة

حلب: أسطورة الإباء والصمود

 

رفض أهالي حلب منذ بداية العدوان على سورية شعباً ومؤسسات وعيشاً مشتركاً، رفضوا بوعيهم وأصالتهم وإحساسهم الوطني العميق الصادق أن يكونوا وقوداً لهذا العدوان، وأبوا طروحات ومخططات التكفيريين والرجعيين العرب والعثمانيين… وصمدوا أمام محاولات التضليل والفتنة، وواجهوا الإرهابيين… فجن جنون هؤلاء ولاسيما أنه كان قد مضى أكثر من سنة على تجهيز الحكومة التركية آلاف الخيم للّجوء والنزوح.

إن مأساة حلب اليوم أكبر من حملة النفاق والتضليل. ووقف نزيف دم الشعب السوري لايقترن بالهدنة فقط، ولا بالمصالحات المحليّة والوطنية، ولا بجنيف، بقدر مايقترن بتنفيذ قرارات مجلس الأمن ذات الصلة التي نصّت كلها على أولوية محاربة الإرهاب. والإرهابيون وداعموهم يعرفون ذلك، ولذلك يستترون بالمدنيين وبالمشافي ودور العبادة، وحين يعجزهم الاستتار يقصفون المدنيين والمشافي ودور العبادة كما حدث بالأمس.

صمد الحلبيون وأبوا الانخراط في الفتنة، فحلب هي حلب التاريخ العريق، والشعب الحي الماهر في الصناعة والتجارة والإنتاج الجيّد الوفير، وهي التي لا تُنافس في حواضر الشرق، ولا في محيطها الجغرافي من المدن السورية والتركية والعراقية، هذا ما أدركه الحلبيون جيداً ولازالوا يدركونه ولذلك هم الأدرى بأبعاد استهدافهم، بوسائله وأسبابه وأدواته وأهدافه.

لقد طال الزمن الذي كانت فيه حلب الحصن المنيع للدولة وللحضارة العربية الإسلامية في وجه أعدائها من الشمال، فصانت تاريخياً بصمودها جنوب الدولة العربية الإسلامية ومشرقها. فمن ينكر أن بلاط سيف الدولة الحمداني فيها كان ولا يزال مركز إشعاع حضاري عريقاً قصده وأقام فيها كبار العلماء والفلاسفة والأدباء والقادة الشجعان أيضاً؟.

يتألّم أردوغان ويضيق ذرعاً بصمود أهل حلب، ويأخذه الجنون حين يرى امتداد لهيب النار إلى قصره، فقد كتب أمس الصحفي حسين شيمشيك في إحدى الصحف التركية أن «أردوغان المجرم حوّل غازي عينتاب إلى بيشاور، وتركيا كلها إلى باكستان» فسجون تركيا لم تعد تتسع لأكثر من 186 ألف سجين تركي أغلبهم من التكنوقراط.

«حلب لا تحترق» بالأحمر أبداً هذا تضليل واستهداف، لذلك كان الرد عليه «تحيا حلب» بالأخضر. ستحيا حلب وتحرق المؤامرة عليها، فقد استُهدف أهلوها من قبل الأزمة لأنها كانت منافسة في كل شيء لجوارها من المدن التركية. وهي بثقلها التاريخي تصدت لهجمات عديدة، وثقلها الراهن – قرابة ثلث سكان سورية – وبتآلفها الحميم وعشق السوريين وكافة شعوب الأرض لها قادرة اليوم وغداً كغيرها من المحافظات السورية على رد الصاع صاعين لوحوش العصر.

لماذا حلب اليوم إذن؟

حلب اليوم هكذا، لأن وفد الرياض مُني بفشل ذريع وبهزيمة وإحباط في جنيف3، فأصاب هذا الفشل المجرم أردوغان بالقلق وبالجنون، ولاسيما أن إحراز النصر العسكري فيها كان مستمراً ومتتابعاً قبل “الهدنة” التي رأت فيها الحكومة السورية نظيراً للمصالحات الوطنية من حيث استراتيجية وقف نزيف الدم السوري، أمّا الآن فلابد من الحسم، ومن إحراز النصر الميداني الذي سيؤدي حكماً إلى نصر سياسي في جنيف القادم، فكان هذا الإجرام الأقصى في دمويته ووحشيته مقترناً بضخ إعلامي واسع وكبير ومضلل يواجه فيه أهلنا إرهاباً دولياً منظماً.

وها هي اليوم أغلب وأهم المراكز البحثيّة في العالم توضّح أن «المعركة في حلب تصاحبها دعاية إعلامية مغرضة، حيث ضرب الإرهابيون أحياء المدنيين بآلاف القذائف، الأمر الذي استوجب رد الجيش الذي نقلت وسائل الإعلام الأمريكية وحلفاؤها صورة خاطئة وكاذبة عن تهديده للمدنيين… وقد اعتمدت الإدارة الأمريكية على جندي بريطاني سابق يقود بتمويل مشترك بين الإدارة وجبهة النصرة وتركيا وقطر حملة لتصوير كل هجوم على معاقل الجبهة أنه هجوم على المدنيين…  وهناك اعترافات سابقة لرجال في الإدارة الأمريكية بتعاون الإدارة وحلفائها في المنطقة مع التنظيمات الإرهابية سرّاً لإسقاط الدولة السورية».

وها هو الرأي العام، والرسمي، والعالمي يشهد تحوّلاً موضوعياً وحقيقياً تجاه وعي الأزمة، فقد أقر بالأمس شتاينماير خلال لقائه مع صحيفة دي فيليت الألمانية:«إن الأزمة السورية لم تكن منذ البداية داخلية، فالأحداث في هذا البلد أثّرت فيها دول جارة وقريبة وبعيدة لاتزال تسيطر على الجماعات التي تعمل في سورية».

حلب هي التاريخ العريق الأغر، والمستقبل الواعد، وغداً سنرى.

د. عبد اللطيف عمران