ثقافة وفن

«خارج السيطرة».. مسرح سوري خالص

بعد “جنونهم” في عرضي (رماد البنفسج) و(هستيريا) يختتم طلاب السنة الرابعة في المعهد العالي للفنون المسرحيّة عامهم الدراسي في مشروع التخرج الثالث الذي حمل عنوان ( خارج السيطرة ) وجاء النصّ لوائل قدّور أمّا الإعداد والإخراج فلعميد المعهد الدكتور سامر عمران.

قبل العرض كان لإيقاع الموسيقى دورها المشوّق والمريب، فالنصّ يحفّز قارئه للانطلاق نحو استقبال ما هو غير مألوف، لكن وبعد دخول الممثلين مقتحمين المسرح تعود المخيّلة لمنطق الواقع المعاش، والمشهد الثاني – الذي يروي قصّة السائق أبو هيثم في الكراج – يقوم بالربط الذي أشرنا إليه أكثر من المشهد الأوّل الذي يبدو مسلوخاً عن المسرحيّة، لولا إيضاح بطيء يظهر في مشاهد متأخرة من العرض، يُكون لدى المتلقي بأنّ هناك من يكتب مشاهد المسرحيّة يعيش بين الجمهور وبين الممثلين ويقود دفّة الأحداث باتجاه النهاية.

عن اختيار نصّ سوري وعن الصعوبة في معالجة الأمر تحدّث المخرج (سامر عمران) لنا موضحاً: “أولاً فكرت ومنذ سنوات بتقديم نصّ سوري، و ثانياً فقد اختبر طلاب هذه الدفعة مجموعة من الكتاب الأوربيين عبر سنواتهم الأربع، و لدى اتخاذي القرار في الإشراف على مشروع التخرج لا بدّ لي من البحث عن مادّة درامية غنيّة، فلدي تسعة شباب يجب تقديمهم بمسؤولية… وبالصدفة وقع نصّ (وائل قدور) بين يدي على الرغم من قراءتي له منذ سنوات، فوجدته مناسباً، وهو يعالج مشكلة اجتماعيّة مهمّة في مجتمعنا، وثالثاً أحببت أن ّ أقدم عرض سوري خالص من الكاتب للمثلين للمخرج للإضاءة للخشبة وإلى كلّ عنصر فيه، فقد آثرت هذه المغامرة وقررت مع هؤلاء الشباب أنّ ننطلق معاً فيها”.

اعتمدت خلفية مشاهد العرض على لونين غالبين ( الأبيض والأسود ) فتبدو الحياة قليلة التنوع ومقوّلبة، إضافةً إلى أنّه وعلى رأس الصور انتصبت المآذن تحمل قمراً وصليباً !!.. ويعالج النصّ في محوره الرئيسي قضيّة أساسيّة هي ما يسمى جرائم الشرف، لكنّه مع الإعداد والمعالجة تمّ طرح قضايا جديدة تحثّنا كمجتمع للبحث عن حلول لها كونها باتت مشاكل بسيطة لا يمكن التغاضي عنها مثل القوانين الإسعافية على باب المستشفيات التي تتعلق بإجراءات إدارية تقتضي بحجز المسعف ريثما يتمّ التأكد من حيثيات الحادث، أو من تحليل المشرّع لأحقيّة القاتل في جريمة الشرف من الهروب من فعلته دون عقاب، و بذلك يتواطئ القانون مع القاتل المتعمّد، والتي في جانب منها تعزيز للطائفيّة وتشجيع للقبليّة وغير ذلك، أو مشكلة تفوق الذكر وسيطرته على الأنثى وحرمانها من أبسط حقوقها كالتعلّم … وبالعودة لربط اللون مع المشاكل سنجد بأنّ مجتمعنا يدور حول مشاكل هي أشبه بالمتاهات التي تذلّه وتقصي به بعيداً عن الحلول التي لا بدّ من الوصول إليّها ومن دون التوهم بحلّها من خلال الابتلاء بمشكلة جديدة أو السعي لحلّ على حساب أحد الأشخاص فيكون الضحيّة ليرتاح الآخرين.

للعرض جماليّة خاصّة أتت من خلال تدخل الكاتب عبر تمعن وتأمل نقلته شاشة العرض المساعدة لفتح فضاء تخيّلي ربطي بين ما تشاهده العين من لعبة أمامها وبين ما يقوم به قلم الكاتب وورقته، وبذلك نجح العرض في قيادة الجمهور نحو تفضيل الحلّ الإنساني لكلّ مشكلة وكره الحلّ الدموي فينطق عزيز برغبته بعد مرور فترة طويلة من البحث عن أخته علياء وزوجها وسام إلى الحلّ الأجمل الذي جائه عبر المنام وجعله يتخلى عن رغبة القتل بدافع الشرف المزيف للانطلاق نحو التسامح والارتقاء بها إلى ثقافة جديدة. أيضاً العلاقة الصادقة بين عزيز والمومس سلوى والتغاضي عن مهنتها مقابل الاعتراف بصدق المشاعر الداخلية لدى كليهما وقلب الصفحة نحو حياة جديدة بعيدة عن الماضي… وبذلك تكون المسرحيّة ناقشت وبطريقة إقناعية قضايا حسّاسة من المجتمع السوري من خلال طرح المشكلة مع وجود اتجاهيين بالنسبة للحلّ واختيار المتلقي لأحدهما الإيجابي والسلبي، ومعالجة الاتجاهات بصورة عقلية تزيد من انتصار طريق على آخر.

ساعتان من الزمن قُدمت فيها مسرحيّة خارج السيطرة على خشبة مسرح فواز الساجر، وبالرغم من الحرارة المرتفعة في المكان وامتلاء المقاعد ووجود عدد كبير من الواقفين، يبدو المشهد ملفتاً للانتباه فقد تحوّل البروشور في يدّ معظم الحاضرين إلى مروحة يدويّة تهتزّ بسرعة طلباً لتلطيف الجو مع عيون مراقبة لكلّ تفصيل من تفاصيل مشاهد المسرحيّة، وكأن الجمهور ازداد تأثراً بالعنوان، وعلى الرغم من كثرة التفاصيل التي بينها النصّ إلا أنّ الممثلين أجادوا اعتناءهم بها فلم تدخلنا في جو الملل بل جعلتنا أكثر تعلقاً بمتابعة المشاعر المرافقة مثل خوف عليا (ولاء العزام) وضحك الكاتب الهستيري (مصطفى القر) وانفجار وسام (مهران نعمو) وقلق عزيز (كنان حميدان) ومحبّة سلوى (هلا بدير) وفضول سائق السرفيس (ريمي سرميني) وسذاجة لبنى (مي السليم) وتعاسة فراس (حسن دوبا) وعدوانية علاء (مغيث صقر). فالجميع أتقن التفاصيل وصدّقها فكانت المشاهد فعلاً من الواقع المعاش والشارع المألوف.

بدا الفضاء في حالة انسجام واضحة بين المسرح ومكان المشهد الافتراضي والعلاقة مع الجمهور وبدون تكلّف فكان السرفيس هو القاعة بأكملها، وكانت قاعة التدخين وكأنّها ركن قصي عن الجميع، وكانت غرفة العاشقين مفتوحة ومن دون غموض… وقبل الوصول إلى نهاية العرض كان الحلّ المقدّم من المسرحيّة قد وصل إلى ذهن المتفرّج من خلال تخيل الصورة ونقيضتها… أمّا لحظة النهاية والختام فكانت ذات أبعاد نُقلت في شاشة العرض المساعدة ونُسجت الكلمة عبر أعمدة ارتسمت على سطح زجاجي وشكلها كما المتاهات، فدمجها الكاتب وكتب كلمة النهاية.

أمّا كلمة طلاب التخرج فقد خصّهم الدكتور سامر عمران بهذه الكلمات: “أنا مؤمن بهم كلّهم ولا شكّ من وجود تباين بينهم، لكن حقيقة المجموعة كاملةً جيدة جداً، وسيكون لهم شأن مهم في مجال التمثيل، وللبعض منهم مشروعه الخاصّ، وأدواتهم متطور جداً، ولديهم عالم نفسي غني، وقد اختبروا مشاريع كثيرة ليبدؤوا الآن التفكير بالانطلاق نحو الحياة، وما هي رسالة كلّ واحد منهم الخاصّة. وقريباً هناك عمل يخصّهم وقد كُلفت به، وهو مشروع مسرحي جديد لتقديم ثقافة المسرح وتعزيزها بين الناس، والشباب على وجه الخصوص، وسيكون لخريجي هذه الدفعة عملاً فيه”.

البعث ميديا – عامر فؤاد عامر