ثقافة وفن

شعراء من سورية.. “قحوش ويوسف” ملوك المحكية

بداية، لا بد من البوح بأنني خجلٌت حينها من نفسي، وذلك عندما سألني أحد الأصدقاء من بلد مجاور، عن شاعرين من سورية، لهما ما لهما من مكانة راقية القيمة الفكرية لدى الكثير من محبي الشعر، ومتذوقيه بمحبة واستمتاع، له نشوة لا تعادلها نشوة الراح، أو أي نشوة أخرى، ولكن -من أسف- لم أعرفهما كما أنني لم أسمع بهما سابقا حينها.

المستمتعون بنتاج هذين الشاعرين أغلبهم من خارج سورية، وهذا ما انتبهت إليه لدى الحديث مع العديد من الأصدقاء غير السوريين، الذين ينظرون إلى المكانة الثقافية الكبيرة التي تمتلكها سورية، ويقدرونها حق تقديرها، ويدأبون بجد في البحث عن كل الحالات الإبداعية الراقية الموجودة لدينا، في بلادنا. وتحت خائنة عيوننا، ولكننا لم نر ولم.

أما لماذا لم نر ولم نسمع، فلا أدري حقاً، إن كان الحق برمته يقع على كاهلنا أم يقع على عاتق المسؤولين عن الوضع الثقافي في سورية، وعلى الإعلام السوري، الذي يتحفنا بين الفينة والأخرى “بشعراء ونقاد، ومثقفين”، لا يتغيرون، ويفهمون في كل شيء حتى بالطبخ، إذا لزم الأمر !!! ولم لا؛ أوليس الطبخ فناً ؟ لذا نرى أولئك ” الفهمانين في كل شي “، متقافذين من منبر إلى آخر، وكلنا – اعتقد ذلك –  يعرف كيف تتم تلك القفزات المكوكية من برنامج تلفزيوني، إلى حوار إذاعي، ثم إلى مقال صحفي.. وصورهم بابتسامتهم الميتة لا تفارق محيّاهم الأزرق.

أما لماذا لم نسمع ولم نر، فلن أجيب على هذه الغصة الآن؛ لأنني أريد أن أرد الاعتبار لنفسي أولاً؛ كوني تعرفت إلى شاعرين من أهم من قرأت لهم دون استثناء، مع احترامي لكل شعرائنا الذين يستحقون هذه الكلمة فعلاً، كما أنني أرغب بقوة في تعريف كل الذين لا يعرفون بالشاعر السوري أو المشتاوي كما يُلقب: المهندس (عصام يوسف)، والشاعر الدكتور المغترب  (إياد قحوش).

شاعران يُنزلان الكلمة عن صهوة معناها، لترنّ بخلخالها المسبوك من فضة الحلم، مسمعة ضجة صهيلها الحر كل من به صمم، (على قولة المتنبي).

عصام يوسف وإياد قحوش يكتبان الشعر باللغة المحكية، وأعتقد أن هذا هو السبب في عدم اكتراث الإعلام لهما، وكأن المحكية مسبّة أو تهمة، وليست وسيلتنا اليومية للتواصل والحوار والعتب والحب والكذب، إنها لساننا، ولا أدري كيف يجدها بعضهم تهديداً للغة العربية الفصحى، فالمحكية بنت الفصحى؛ فأنا أكتب بها وأحيانا عندما تصيبني لوثة الشعر، لا أترجم تلك اللوثة إلا بها، وإذ أسمّي الشعر لوثة، فلست أنا من أعطاه هذه الصفة، ولن أخوض أيضاً في هذا الشأن بأعتباره يمس بالعديد من المسلمات، التي سأتصدى لها يوماً، إذا استطعت لذلك سبيلاً.

 

أود بداية قبل أن أقدم لكم جدائل من غيوم المعنى المرتدي عباءة قهوتنا اليومية، لكل من الشاعرين عصام يوسف وإياد قحوش، أن أنقل شيئاً من رؤيتهما للشعر بطريقتهما الفريدة:

الشاعر إياد قحوش في أحد الحوارات التي أجريت معه، يجيب عن بعض الأسئلة المتعلقة بالشعر كما يلي:

– شو هوّي الشعر؟

مافينا نحدّد الشعر .. كل مالبّسناه طقم بيكبر عليه وبيشقشقو

– شو الفرق بين اللغه الفصحى واللغه المحكيّه؟

اللغه المحكيّه بتعربش معنا عالسجر، وبتطلع عالجبال وبتسهر معنا بالشتوية، ومنشوفها مع الولاد عالبيادر، ومع الفرحانين بالأعراس ومع المحزونين بالمقبره، أنا كل أحلامي باللغه المحكيّه، اللغه الفصحى بتعرّم عالورق.

– شو بتحبّ تقول لشعرا اللغه الفصحى؟

بقللهم في حلاوه ببعلبك وبغير بعلبك، الشعر باللغه المحكيّه تثقف ودار بلدان .. ونحنا عم نعجقو بالصور وبالخيال وفتحنالو شبابيك عالفكر. بشعرنا منحكي عن الخيال للي بينكسر، والصوت للي فيك تمسكو، والضو البتسمعو، نحنا فتنا عالموت وبحبشنا بخزانتو مشينا بعكس الوقت، دوّرنا الأرض ع إصبع ولد زغير.

 

الشاعر عصام يوسف، أيضا في حوار أجري معه عن الشعر:

– شو هوّي الشعر برأيك؟ وبالتحديد شعر الكلمة المحكية؟

الشِّعر هوّي الروح اللي بتتجسّد بالكلمه العَـزّيفي (ومُمْكن تتجسّد بالحَجر، باللون، بالصَوت) وعندها بتصير شي راقي كمان، بس غير الشعر.

كل ما كانت هالروح قادره تضحّي وتعطي، بيصير الشعر يتمجّد وكل ما كان فيه شي من المَعرفه الكليّه، بيقدر يرقّي الوجود. تلاميذو هنّي الحواس، ممكن يكونوا خمسه

سِتّه أو أكتر!! والشِّعر هوّي الشِّعر.. بأي لغة كانت.

سواء لِبس من جوخ الإنكليز أو حرير الصين أو حتّى شِرْوال مشتاوي.

– أيمتى بلّشت تكتب شعر وشوأحب قصيدة من تأليفك ع قلبك؟

بلّشت مع الشعر قبل ما بلّش مع الكتابه.. يمكن علّمت الكتابه تقول شعر، وأحلى قصيدة ما كتبتها لهلّق.

– هل الشعروالشاعر آخدين حقون ببلادنا أم الشعر والشعرا مظلومين؟

الشاعر ما بدّو شي..”زَقّفلو شوي وبـِكفّي.

– شو بتحب تغيّر لو بيطلع بإيدك تغيّر؟

رد المشتى شي ألفبنايه لورا وعمّر محلّن شي ألف بيت شعر لقدّام.

ما سبق هو أجزاء معينة من حوارين منفصلين أجريا مع الشاعر (عصام يوسف) والشاعر (إياد قحوش)، وقد اخترت تلك الأسئلة لأنها تعبر بشكل واضح عن الرؤية والبعد الجمالي والدلالي لمفهوم الشعر عند هذين المدهشين، حتى وهما يجيبان عن أسئلة عمومية، ولكن ما يجعلني مقشعرّ البدن وأنا أقرأ أجوبتهما، هو كل تلك الطاقة الإيحائية العالية المزاج والبسيطة في آن المختبئة في كلامهما، والعجيب أيضاً أن كلامهما هو الكلام الذي نتلفظ به يومياً، ولكننا لاننتبه إلى جماليته ولا إلى أي مدى هو قادر على التعبير بدهشة عن مكنوناتنا الداخلية المشتتة بين لغتين (إحدى حالات الفصام المتأصلة في دواخلنا، دون أن نعترف بذلك).

إليكم الآن بعضاً من أشعارهما:

الشاعر.. عصام يوسف:

حاج .. يا إزميل

منّي جروح تْشيل

تعّبتني من القال

تعّبتني من القيل

وصَرلك سني بتقول

باقي حرف

وبصيّرك إنجيل

**

بينك وبين العتم

شو بتقدر تشوف !؟

صوتك الأطرش

خوفك اللابس كفوف

وهمّك بإنّك فارس

وكل المدى رهجة سيوف.

شهوة قمر

عم يفتح قناني السهر

ويصب كاسات الضيوف

وصيّة نبي عم يشلح

كتاب الدني فوق الرفوف.

**

من كتر ما دِرْتلّهم خدّي اليسار

خدّي اليمين من الورد

والنار غار

ينزف عايديهم

صمت قلبي الجريح.

في ناس بيقولو

إنت أوّل مســـــــيح

في ناس بيقولو

إنت آخر حمــــــــــــار.

 **

يا ليل طفّي العَتْم بـِتْرَجّاك

شو مِشْتهي..

إسْهر أنا ويّاك

وهيّي إلي

هَالجرد أركيلي

وحِط القمر

فَحْمي على التِنْباك.

 

نصوص للشاعر إياد قحوش:

 

شو بتشبهي حال الدني

وما بتشبهي حالك

مرات أنتي مغيرة

وبيعن ع بالك

صوت الشتي

ومرات بتهدي السما اقبالك

وبتدعسي بنص الشمس

تتصير خلخالك.

**

الشعر

مطرح ماإلو مطرح

قيامه ارتجلها الموت عالمسرح

بابو قزاز وما إلو مسكه

بتعرق عليه الروح

وبتسرح

مجنون

معْ قنّينة الويسكي

بيبكي

و ع نهنهة البكي بيفرح

بيشرح غناني الضو

للمسكي

بينبَحّ لونو قدّ مَ بيشرح

بيحكّ جلد السطر بالحسْكه

وبتشوف دم

ومابتعرف كيف

وبتعرفو بيحكّ مَ بيجرح.

لا أدري حقاً ماذا يمكن أن يُقال بعد ما قاله هذان السوريان، الحلمان، الطيفان، لكنهم السوريون شعراء الفرح والحب والجمال، ورسله أيضا إلى العالم.

تمّام علي بركات