ثقافة وفن

طيران الوسادة

كما لو أن روحه العاطلة عن الوردة نائمة في أرجوحة يدفعها الزمان…

فوق: أخيلة وظلال غائمة.

تحت: أناس وأوراق وأقلام.

فوق: فتى كهل يرتقي معارج طعنة تركها رجل غر، قادم من جبال تُعربش عليها الملائكة في صعودها إلى السماء، طعنة رشيقة في جسد فتاة، تروح وتجيء في شرفة بيت عربي مطلة على زقاق شعبي، شاردة كغيمة وهي تسقي وروداً مغروسة في علب صفيح يأكلها الصدأ، ترمي العابرين بنظرات ساهمة، وقعت كسياط من نار على جسد الرجل الريفي الغر، فما كان منه إلا أن أحضر أباه وأمه في الهوب هوب (باص نقل كان يستخدم في سبعينيات القرن الفائت ومازال يستعمل حتى الآن) ليخطبا تلك الفتاة المشغولة بسقي الورود وعيناها تسترجعان مدى نظراتها الساهمة من فوق أجساد العابرين، بعد أن جاء من سيترك فيها ندوباً ندية لطعنات ست، خرج منها خمسة ذكور وأنثى. ستة أولاد كان ثانيهم وروحه لم تزل معلقة بأرجوحة تستعيد المشهد ببطء شديد، فتى ربته الأحلام وآثار النطاق العسكري فوق جسده الغض. كلما أوحى إليه جبرائيل اللعب بمغامرة جسورة يمضي فيها الفتى الشقي إلى خارج حدود مربط أوهامه المتمثلة بعتبة البيت، ليشاهد بفضول الأنبياء كيف تسير الحياة في الشارع الآخر، وليعرف بشغف الأولاد ما طبيعة هذا العالم الغريب بكل تفاصيله حتى على مخيلته، العالم المحرم عليه دخوله خوفاً على حياته، فسكان ذلك العالم المجهول، كما أخبره الخوف الأزلي القابع في دواخل جيناته، هم من عالم مختلف، قالت الحياة وانتهى الأمر.

حينها سيصبح البيت العربي الكبير الذي ولد فيه بفسحته السماوية وغرفه الكثيرة ملعب خياله ومرتع طفولته بدءاً من الغرفة التي يقطنها وأهله حتى السطح الذي ربّى فوقه الخال سرباً من الحمام كهواية رجل كسره الحب، رغم أن اللعب فوق هذا السطح ومشاركته خاله في تطيير الحمام ومراقبة روعة طيرانه الأخاذة بانسيابيتها مع الريح، هي أيضاً مغامرة أقل تكلفة بحساب الألم

تحت: مضت أيام اللهو الفقير بين الأسرّة وفوق الأدراج، عندما جاءته أمه بصدرية ودفاتر وأقلام، لتبدأ غربته في صباح ميت لا حمام في سمائه، ومن أمام عتبة البيت “حدوده الآمنة”، صعد إلى حافلة زرقاء صغيرة برفقة أطفال يقطنون في الشارع الآخر، كما اكتشف لاحقاً، الشارع الذي ربى في داخله الخوف من الآخر لزمن طويل، ثم مضت الحافلة إلى حيث لا يدري، كم بكى وتعربش بباب البيت وخصر أمه، والخوف يأكل من قلبه دون جدوى، إلا أن وردة جورية قرمزية اللون، رمى بها الخال من الشرفة، التقطها الصبي وضمها كمن يضم حياته الهاربة، هدّأت من روعه وصارت رمزاً لعالمه الآمن وألفة بيته وأمه، وردة قرمزية خبأها بين راحتيه الصغيرتين وأغرقها بدموعه طيلة ذلك اليوم التشريني الكئيب، نادى أمه وأخيه الأكبر “بيت ألفته”، نادى كثيراً وبكى كثيراً، إلا أن أحداً ما لم يعره انتباهاً، ماعدا الوردة الجورية التي حزنت لحزنه وبكت عطراً أزليا قبل أن تموت بين يديه لتخترق الحياة بقسوتها روحه دفعة واحدة وإلى الأبد.

دفع الزمان بالأرجوحة أعلى وأعلى، تغيرت الحياة، اختلفت معالمها وأبعادها، كبر الولد الراكض بالذاكرة، تعرف على نفسه وصار له وجه لم يعرفه عندما وجد نفسه ذات مرآة يحدق به وزغب أسود يفترس ملامح الطفولة في قسماته معطيا صوته هذا اللون المائل للندم.

لم تعد الغرف ملاعب أنسام الخيال والصبا، ولم يعد الآخر كهف خوفه، لكنه صار أكثر تطرفاً باللعب، صار سلفياً وأصولياً بالشعر الذي ورطته به تلك الوردة القرمزية، كما يورط الملك بالعزلة والشجرة بالحديقة، لجأ إلى الشعر بعد أن أبهظ الحزن طفولته، وربى بعوالمه الأكثر عمقا ذلك البيت الذي ولد فيه اكتئاباً غامضاً يشبه حزن أزهار الليمون التي “ليس لناعم خاصرتيها شبيه في سوق النسيم”.

خلا البيت الذي ربى حنينه كما يربي رجل طفله فوق ركبتيه، خلا من قاطنيه ولم تعد أي وردة تسكن شرفته بعد أن صارت مستودعاً للأشياء المهملة، من بينها صورة للوطن وهو يشرب الكحول، لم يعد إلى زيارته مرة أخرى دون أن يخيفه ضياع الذكريات أو هروبها من ثقوب الذاكرة، فكل لحظة عاشتها روحه في ذلك البيت حية في داخله ولا شيء من البعد يهدده بداء النسيان، ولكن كم يتمنى أن يسمع بلاطه وقع خطواته القديمة وأن تسمع جدرانه الشعر الذي يردده كلما مر خاطر هائج في باله:

لك يا منازل في القلوب منازل /أقفرت أنت وهن منك أواهل.

روحه مازالت في الأرجوحة والزمن لازال يدفعها فوق أرواح من أحَبّ تطير لاهية في الأفق تزاحم العصافير على التقاط خيوط الفجر

تحت؟.. آه من تحت.

لو فينا نرجع ونطير، لكننا خلقنا للنوى، وحرام كما يبدو على الأيام أن نتجمعّ.

 

البعث ميديا || تمّام علي بركات