ثقافة وفن

فروق ثقافية مزمنة

لطالما كان الشعر بمثابة العلم الصرف، وفي الحقيقة هو من العلوم لمن لا علم له بهذا عدا عن كونه من الفنون وأيضا هو من الأداب، ولكل ما تم ذكره أدلة قطعية طبعا، لكن وباعتبار أن الشعر كما أسلفنا هو علم، فلا بد أن يوجد معلم وتلميذ، ولطالما عرف التلميد قيمة معلمه فحفظها وصانها حتى أن لسان حاله قال “من علمني حرفا كنت له عبدا” والحكايات التي رويت عن أهمية تعلّم الشعر لأنه ليس فطريا، بل هو يحتاج إلى الدراية والخبرة ، وهذا التعلم هو ما يعطي للموهبة الشعرية قيمتها، فها هو “الحسن بن هانئ” كان صاحب موهبة شعرية فذة، لكنه لم يكن ليصل إلى مستواه الفلسفي والأدبي والفني الرفيع لو نصيحة معلمه“خلف الأحمر”  بحفظه ألف بيت من الشعر ثم نسيانها، وياله من درس لن يصمد فيه إلا كل خلاق في الشعر كما فعل أبو النواس بما تعلمه فابهر، أيضا يحكى أن الإمام “علي بن أبي طالب” نصح الفرزدق عندما بدأ الأخير نظم الشعر، بأن يحفظ القرآن ليطوّر لغته ومهارته الشعرية، فبقي الفرزدق ملازماً غرفته وقدمه مقيدة في عارضة السرير، لم يخرج منها حتى ختم القرآن عملاً بالنصيحة الذهبية التي تلقاها، وكم كانت نتيجة هذه النصائح مدهشة، بالإرث الشعري البديع الذي تركه كل من الفرزدق وأبي نواس، لكن بلاء عاما حلّ وكأنه نقمة من نقمات الحرب، فالجميع يريد أن يصبح شاعرا، حتى دون أن يتقن اللغة! فمَن في مثل هذا الزمن يستمع إلى النصيحة ويتقيّد بها قبل أن يخوض في تجربة الكتابة الشعرية؟ ومن بهذا الزمان يهنأ بشاعر؟ وخصوصاً بعد أن أصبح الجميع شعراء، ومن له “دعمة” إعلامية، صار نجماً لا يضاهى في سماء شعر البرامج الصباحية والترفيهية، ولا أحد غير الله يستطيع إقناعه بأنه ليس كذلك! وربما -أقول ربما- لم تعرف البشرية بتاريخها الطويل وفي معظم مراحل نهوض حضاراتها أو كبواتها، عدد شعراء أنتجه مجتمع واحد بظروف متشابهة كعدد الشعراء الذين أنتجتهم الأزمة السورية بقصد أو من دونه، وهذه ظاهرة غريبة فعلاً، فلم يبقَ تقريباً إلا القليل من الذين قرؤوا الشعر وأحبّوه، لم يجرّبوا عضلاتهم مع القصيدة “المفتوحة”، ليتحوّلوا إلى شعراء لا يشقّ لهم غبار، هكذا بين ليلة وضحاها، كما حدث ويحدث في تلك الزوايا الشعرية، التي تبحث لنفسها ولروّادها عن منفرج من ثقل الألم وسطوته كما يخبر القائمون عليها!، لتأتي الغرائبية والعجائبية وتكسير كل الشروط الفنية الخاصة بالشعر، سمة مميزة لعموم “شعراء المرحلة” الذين صاروا “أكثر من الهم على القلب” كما يقال، وخروج عن كل ما هو قانون أصيل في الفن، بحجة الحداثة والشعر الجديد المنفلت من كل قيد، ليصبح أي كلام يهذرون به، بمنزلة قصيدة، تتلى في هذا المنبر وعلى تلك الشاشة دون أي شعور بحجم الكارثة! حتى صار الشعراء هم السواد الأعظم من المجتمع السوري، والقراء أو المستمعون أو الحضور هم القلة التي تتهافت تلك المنابر بشدّة على اجتذابها لحاناتها الشعرية، التي وصل ثمن كأس الشراب فيها إلى أكثر من 2000 ليرة سورية وأحياناً حسب الزبون!.

الشعراء أيضاً وعلى الرغم من كونهم الفرجة التي سيدوخ الحضور من قصائدها الغرائبية سيكونون أيضاً شعراء وروّاداً في الوقت عينه، سيشترون كؤوسهم ويلقون قصائدهم ليخرجوا كما دخلوا، ليس كما دخلوا تماماً، ففضلاً عن الثمن المرتفع للكأس الشعري الذي تجرّعوه وجرّعوه للحضور، سيرافق كلاً منهم حلم صغير بأنه شاعر لا يشقّ له غبار.

كانت القبائل بل حتى المدن العربية، يهنّئ بعضها بعضاً إذا حدث وظهر في أحدها شاعر، فالشاعر كان بمنزلة وزير خارجية قبيلته، ممجّداً أمجادها ومهدّداً أعداءها ومنشداً أخبارها، الآن مَن يهنّئ مَن؟ ومَن يعترف بمن؟ الجميع شعراء والجميع لا يقبلون النقد ولا النصيحة، الجميع نصوصهم مقدّسة ونجوم و”أعلى ما بخيل النقاد فليكتبوه”، فهذا آخر هموم شعراء هذا الزمن!

تمّام علي بركات