مساحة حرة

فضيحة من العيار الثقيل

ما كانت فضائح التجسس الأمريكي تنقطع على طول الخط وما كانت يوماً إلا من العيار الثقيل تطول الحلفاء والأصدقاء، وربما أكثر ما تطول من الخصوم ولا يسلم من شرها أحد على الإطلاق وفضيحة التجسس الأخيرة التي طالت قصر الإليزيه ولفت بشباكها وحجم اتهاماتها الكبرى ثلاثة رؤساء فرنسيين دفعة واحدة جاك شيراك ونيكولاي ساركوزي والرئيس الحالي فرانسوا أولاند كانت من العيار الثقيل والمدوي بعد فضيحة التجسس المشهورة على المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.

والسؤال: هل يبلع «الإليزيه» الفضيحة كما بلعتها ميركل؟ وماذا تفيد جعجعة جوقة الحكم الفرنسي من أولاند إلى لوران فابيوس إلى رئيس الوزراء مانويل فالس إذا لم تترجم إلى مواقف وإجراءات لا نظن السياسة الفرنسية الخانعة والذيلية والمستسلمة للسيد الأمريكي قادرة عليها؟ فقد تعود حكام الاتحاد الأوروبي على استعبادهم أمنياً على يد وكالة الاستخبارات الأمريكية التي باتت تحصي عليهم أنفاسهم وتراقبهم حتى في غرف نومهم وتعرف أن ردود فعلهم عند كل فضيحة مهما كانت كبيرة لا تتجاوز أنوفهم ولا تأخذها على محمل الجد.

اللهم لا شماتة يا أولاند ويا شيراك ويا ساركوزي الذين مرغتم أنف فرنسا في الوحل وبعتم شرف الأمة الفرنسية وقيم ثورتها واستقلاليتها بأبخس الأثمان لليانكي الأمريكي وأضحيتم عبيداً مأمورين في مزارعه السياسية وانسقتم كالنعاج وراءه ضاربين عرض الحائط بكل ميراث قامات كبيرة كديغول ونضالاته وقراراته السيادية المستقلة المشهودة له ولم ينفعكم ذلك من وضعكم في دائرة الشك وتحت المراقبة ورصد حركاتكم وسكناتكم من قبل أصغر المخبرين في وكالة المخابرات الأمريكية، ثم افتضح أمركم أمام كل الفرنسيين والعالم، هل تظنون أن النشر لم يتم أيضاً بموافقة المخابرات الأمريكية ذاتها لإيقاع المزيد من الإهانة بكم أمام شعبكم؟.

ولكن الشماتة كل الشماتة بالوزير فابيوس المتصهين أباً عن جد والذي حول الخارجية الفرنسية (لكي دوسيه) إلى دائرة صغيرة من دوائر الخارجية الأمريكية ونفذ مع سيده أولاند سياسات الإدارة الأمريكية الإرهابية القذرة في المنطقة وسورية تحديداً بحذافيرها لقاء فتات من الصفقات والرشاوى تدفعها قطر والسعودية الأمر الذي بات معروفاً ومفضوحاً للقاصي والداني وهو ما جعل شعبية أولاند تهبط إلى أدنى مستوى وصلته شعبية رئيس فرنسي من قبل.

إن استخفاف الساسة الأمريكيين بالقادة الأوروبيين ليس جديداً فقد وصفهم دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي في عهد بوش الابن بالعجائز، والقارة الأوروبية بالقارة العجوز التي لا حول لها ولا قوة في معرض رده على انتقادات بعض العواصم الأوروبية لغزو أمريكا للعراق، وقال: «إنه من العبث ومضيعة الوقت» التفكير في إشراكهم في قرارات واشنطن بشأن غزو العراق أو غير العراق فهم أعجز من أن يملكون القدرة على رفض أوامرها حتى لو كانت تستبيح بلادهم كلها براً وبحراً وجواً   من أجل استخدمها في الغزوات والحروب التي يقررها البيت الأبيض فهم محكومون بحماية «ناتو» الذي يقوده البنتاغون ولا قراراً عسكرياً أو سياسياً ولا حتى اقتصادياً أوروبياً مستقلاً ولا من يحزنون، ومعروف كيف استخدمت واشنطن أماكن عديدة في دول أوروبية عديدة كمعتقلات سرية للمناوئين لها في العالم من دون أدنى إذن أو علم من السلطات المختصة .

وبالنسبة لكل من ساركوزي وشيراك وأولاند فقد ارتضوا دوراً ذيلياً وتبعياً للإدارات الأمريكية وزادهم أولاند بأنه قبل أن تأخذ فرنسا دور الكومبارس وتتراجع من دولة عظمى عضو في مجلس الأمن الدولي لها احترامها العالمي إلى دور القزم اللاهث وراء المشيئة الأمريكية همها كسب الرضا الأمريكي بأي ثمن وهذا ما رأيناه في ضربها وتدميرها للدولة الليبية وسرقة نفطها وكذلك دعمها العلني للعصابات الإرهابية في سورية واحتضانها لشراذم ما يسمى «المعارضة» الخارجية تحت مسمى مجموعة «أصدقاء سورية» ثبت فشلها وانتهاء صلاحيتها لقاء أجور تتلقاها من قطر والسعودية وبذلك انحدرت حكومة أولاند إلى دولة تؤجر نفسها لأنظمة مستبدة لا تعرف أي قيمة من قيم الحرية والتقدم وحقوق الإنسان .

على أي حال، الفضيحة كشفت عورات هؤلاء الحكام وكم يكذبون على شعوبهم وعلى الرأي العام العالمي وكم هي أصناف المؤامرات التي يحيكونها في الخفاء وحتى على أقرب الدول إليهم في الاتحاد الأوروبي كاليونان وإسبانيا وإيطاليا والبرتغال ودول في أوروبا الشرقية راكضة نحو الالتحاق بالاتحاد الأوروبي والدخول في مظلة «ناتو» وهو ما يدل على مدى وساخة مطبخهم السياسي وروائح المواد الفاسدة المستخدمة التي تزكم الأنوف عندما يرفع الغطاء عنها وتكشف أسرارها.

ومثلما فضحت وثائق «ويكيليكس» هؤلاء فإنها فضحت كذلك حكام السعودية وعلاقاتهم القديمة الجديدة بالكيان الصهيوني وفضحت كم يدفع نظام آل سعود من مئات الملايين من الدولارات لشراء ذمم السياسيين والصحفيين في لبنان وغيره لتجميل صورته القبيحة وتزيين أفعاله الشنيعة المشينة ضد العرب والمسلمين، وجماعة الحريري العملاء الصغار المأجورون ليسوا إلا أنموذجاً مصغراً لنماذج كثيرة اشتراها البترو دولار السعودي القذر للتآمر على الأمة العربية وقضاياها.

لا نتوقع أن يتعدى احتجاج الإليزيه الاستعراض الإعلامي والثرثره السياسية، ولا نتوقع حتى مجرد الاعتذار من البيت الأبيض ولن تتوقف عمليات التجسس الأمريكي لحظة واحدة على كل من هب ودب في هذا العالم وبكل الوسائط الحديثة والمتطورة جداً ولن يهتز لعميل من العملاء في وكالة المخابرات الأمريكية جفن من ردود فعل حكام باريس وتهديداتهم الجوفاء من جراء الفضيحة المدوية لأنهم يعرفون النتيجة سلفاً إذ لا شيء سوى التكاذب الإعلامي وبالمحصلة لنتصور هزال الساسة الأوروبيين وصغرهم أمام الأوامر التي تأتيهم من البيت الأبيض على طريقة نفذ ولا تعترض، وأبلغ فضيحة اليوم قبل أن تأتي فضائح الغد وما أكثرها عند حكام وساسة باعوا أنفسهم رخيصة لشيطان التآمر على الأمم والشعوب.

تركي صقر