مساحة حرة

في الذكرى 68 لميلاده.. تجدد الحاجة لحزب البعث

بعد مواجهة تزيد عن أربعة سنوات متواصلة على الأرض استطاعت سورية بقيادة حزب البعث أن تنتصر على حربٍ عالمية قذرة ، قادتها الولايات المتحدة وعملاؤها في المنطقة، وعهدت لعصابات إرهابية مجمعة من أكثر من ثمانين دولة عربية وأجنبية لتنفيذها وفق أبشع أساليب الإجرام بهدف إقصاء البعث عن الساحة السورية والعربية كحامل ناجح للفكر القومي العلماني بعد أن سبق وتم تدمير العراق الذي كان يحكمه نفس الحزب بغض النظر عن الحالة الذاتية المتباينة، واليوم لم تستهدف تلك الحرب الفكر العربي القومي من خلال سورية فحسب، بل كذلك تصوب نبالها لضرب أسس وقواعد العيش المشترك بين مكونات المجتمع السوري التي قدمها البعث على الحالة الذاتية لكل مكون وحقق نجاحاً ملفتاً، لتأتي الحرب في سياق محاولة يائسة لتعميم الحروب الطائفية والإثنية وإغراق المنطقة في دوامة العنف الأبدي خدمة للمشروع الصهيو – أمريكي الجديد المعد للسيطرة على المنطقة بكاملها وفق أجندة محددة، لكن دمشق التي كانت ولم تزل وستبقى قلعة العرب الصامدة وقلب العروبة النابض وقائدة مشروع الممانعة والمقاومة في وجه كافة المشاريع الاستعمارية التي تستهدف المنطقة العربية تُثبت اليوم حاجتها المتجددة للتمسك بحزب البعث ومشروعه القومي من أجل حماية الجسد الوطني وتفاعله الايجابي مع محيطه القومي خدمةً لمستقبل أجيال الأمة.

كانت ولادة حزب البعث من رحم معاناة وآلام الشعوب العربية بُعيد الاستقلال والتحرر من الانتداب الغربي (الفرنسي في سورية)، وجاءت أهدافه ومبادئه ملبية لتطلعات الشعوب العربية الواسعة ومنسجمة مع أمنياتها المستقبلية في دولة موحدة وقوية قادرة على حماية استقلالها، وقادرة على بناء حضارتها العربية المبنية على أساس الشخصية العربية الخاصة وفق منهاج يضمن الحرية والعدالة وتكافؤ الفرص بين أفرادها، كما أن أدبيات البعث التي تراكمت خلال تاريخه النضالي وخاصة خطب وكلمات القائد الخالد حافظ الأسد ومن بعده ما قدمه من إضافات فكرية السيد الرئيس بشار الأسد هي غنية وثرة بما يُلامس أحلام وطموحات الغالبية من أبناء الجماهير العربية، وهذا ما أعطى للحزب حضوراً مميزاً على الساحة المحلية والعربية، ومنحه شعبية واسعة عجزت الأحزاب الأخرى المنافسه له عن أخذ مكانه ودوره في السلطة ضمن سورية، وهذا ما أزعج أعداءه الحقيقيين في الخارج الذين حاولوا إقصاءه وتبديله بتيارات سياسية دينية تكفيرية متطرفة موالية لهم وجاهزة لأن تخدم مشاريعهم الاستعمارية التقسيمية للمنطقة.

لا نُخف بأن مرحلة نشوء البعث وفترة وصوله إلى السلطة كانتا مواتيين لتحقيق القسم الأكبر من الأهداف خلال العقود الأولى من عمر الثورة (على الأقل في القضايا الداخلية)، لكن عدم وضوح الرؤية لدى قيادته وانشغال بعضها بالسلطة وبهرجتها والجري خلف ملذاتها بما حملته من تداخل في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية أفقدت التنظيم بعضاً من تماسكه وجوهره وأخرته في تنفيذ خططه الإستراتيجية الكبرى لصالح الحركة اليومية لقيادة مؤسسات الدولة، وترافق ذلك مع إهمال غير متعمد للجانب الاجتماعي والتثقيفي أعطى انطباعات مغايرة للمنهج الأساسي الذي يهدف إلى ترسيخ عقيدة البعث واستمرار مشروعه القومي في الاتساع على الساحة العربية، كما أن تقديم وتفضيل العمل السياسي القومي – في كثير من الأحيان – على الجانب الاقتصادي والاجتماعي الوطني خلق فرصة مواتية لبعض التيارات الوطنية والحزبية لطرح نفسها كبديل وطني أكثر آماناً لجماهير الشعب التي بدأت ترى ان المسافات التي تفصل بينها وبين قيادات البعث الوسطى والعليا في الشارع تتسع باستمرار.

من المؤكد بأن الأزمة التي يواجهها حزب البعث في سورية هذه الأيام تختلف كلياً عن المطبات التي تعرض لها خلال الستين سنة السابقة، لأن هذه المعركة تهدف إلى تدمير وتخريب كل ما بناه الحزب خلال تاريخه النضالي بكامله ليس على المستوى الفكري والعقائدي والمنهجي فحسب، بل كذلك على المستوى الاقتصادي والاستراتيجي، ومخططٌ لهذه الحرب أن تؤدي في النهاية إلى إلغاء حقبة البعث بكل ما تحمله من إنجازات وقيم، وقد بدأت بمطالب شعبية بسيطة وصلت للمطالبة بإلغاء المادة الثامنة من دستور الجمهورية العربية السورية التي كانت تُعطي للحزب حق استفراده في قيادة الدولة والمجتمع، وكانت ردة الفعل المباشرة من قيادة البعث تأييدها لتغيير الدستور بالكامل، وترك مبدأ قيادة الدولة والمجتمع لصناديق الاقتراع التي هي صاحبة الحق في قول كلمة الحسم في تحديد الحزب الذي يفوز بالأغلبية في المجالس المحلية والوطنية وتسلم السلطة بناءً على نتائج الانتخابات الحرة، ومع ذلك استطاع البعث أن يُثبت حقه في القيادة بقوة نتائج الانتخابات سواء في المجالس المحلية أو التشريعية، ولم يجد غضاضة في التناغم والتنسيق مع بقية التيارات الوطنية التي استطاعت تحقيق حضور نسبي في الانتخابات مهما كان بسيطاً للحفاظ على اللوحة الوطنية المتكاملة، لأن قيادة البعث ومنذ قيام الحركة التصحيحية عام 1970 كانت منفتحة على بقية الأحزاب الأخرى والمستقلين للمشاركة الفعالة في قيادة الدولة وإدارة مواقع السلطة العليا سواء في الحكومة أو في المجالس التمثيلية ولم تكن في يوم من الأيام لديها أية مخاوف من تأثير ذلك على شعبية الحزب في الشارع.

وهنا لا بد لنا من كلمة حق نقولها للتاريخ ونحن على قناعة مطلقة بها، وبالرغم من السلبيات الكثيرة التي ظهرت هنا وهناك بعد استلام حزب البعث السلطة في سورية، وظهور بعض الممارسات غير المنسجمة مع فكر الحزب وعقيدته، فإن الانجازات الكبيرة والضخمة التي حققتها ثورة البعث في سورية على المستوى الفكري والعقائدي والتربية والتعليم والجيش، وما تم تحقيقه في الجانب الاقتصادي والخدمي، هو ضخم جداً وهو سر صمود سورية شعباً وحكومة وجيشاً في وجه حرب الإقصاء هذه التي دخلت عامها الخامس دون أن تتمكن من تحقيق أي من أهدافها العريضة التي رُسمت لها، فسورية اليوم لا تُقارن بأية دولة في المنطقة من حيث البنية التحتية الضخمة والاقتصاد الاستراتيجي المدروس، والجيش العقائدي المنظم، والشعب الواعي الموحد على الرغم من تعدد أطيافه الدينية والعرقية فهو يُشكل حالة من الوعي المعرفي والحضاري العالية المستوى بين شعوب العالم بفضل التثقيف العقائدي الذي تبناه حزب البعث العربي الاشتراكي في المدارس والجامعات والجيش والمنظمات الشعبية والنقابات المهنية، وإن وعي القيادة السورية وحكمتها في التعاطي مع الأحداث جعل الخسائر في حدها الأدنى وهو السبب الرئيس في إطالة أمد الحرب وتأخير الحسم، وإن خروج جزء لا يتعدى 10 % من مجموع الشعب السوري بمن في ذلك من يُسمون أنفسهم معارضة الخارج عن هذه الوحدة، لا يُشكل مخاوف حقيقية لمستقبل سورية، وإن ما بناه حزب البعث خلال تاريخه النضالي الغني، ليس بمقدور أية قوة في العالم القضاء عليه أو تدميره بالسرعة التي كان يتوقعها الأعداء ، لأنه مبني على قاعدة صلبة!!

إن الحراك التنظيمي والفكري الذي عاشه البعث في الأيام القليلة السابقة لذكرى ميلاده من خلال مؤتمراته السنوية (للفرق والشعب والفروع) وما جرى فيها من حوارات ومناقشات جريئة لتوصيف الواقع ووضع تصورات موضوعية للخروج نحو مستقبل أفضل وإجراء مراجعة لعمل القيادات، يحمل الكثير من الدلالات على قدرة البعث ومرونته في إعادة ترميم بنيته العامة في الوقت الذي يعتبره الأعداء أصبح بحكم المنتهي سياسياً، ويؤكد على رصيد الغني سواء في كوادره القيادية الواعية أو بما عكسته قناعة الجماهير الشعبية فيه كقوة سياسية قادرة على مواجهة المشاريع الاستعمارية المعادية مهما كانت صعبة، والخروج منها نحو مستقبل آمن، و أن النصر قادم لا محالة على أيادي بواسل جيشنا العربي البطل، ومع ذلك نقر بأن الحزب يثمكن أن يقع في بعض الأخطاء التقديرية في مرحلة الترميم الأخيرة أو غيرها نتيجة هفوات تنظيمية، لكنها لا تؤثر على البنية التنظيمية المتماسكة والقوية القادرة على التصويب بالسرعة المطلوبة، سيما أن قطار بناء سورية الجديدة وضع على السكة الصحيحة ونحن لم نزل في المعركة، وقد بينت النتائج الأولية أن العديد من بين ركابه من هم غير قادرين على إثبات أنفسهم بقوة العمل لتحقيق آمال الجماهير البعثية والشعبية التي تنده بأعلى الصوت على ضرورة استبعاد مساحي الجوخ والمتكئين على علاقات مشبوهة، الذين لم يزل حضورهم قوي في العديد من المواقع، وهذا ما يُعرقل إنجاز مشروع البناء الجديد، ولا بدَّ للقيادة من أن تُعيد النظر في العديد من المواقع الميدانية خلال فترات قصيرة لإقصاء هؤلاء من قطار إعادة البناء لأنه لا يجوز أن يحمل في عرباته غير الشرفاء والمخلصين الذين يتحملون بمسؤولية عالية متابعة المسيرة خلف القائد العربي الشامخ شموخ قاسيون الرئيس بشار الأسد.

 

محمد عبد الكريم مصطفى