ثقافة وفن

في زاوية الفم!

يوماً ما؛ وقد اعتاد السوريون عمالاً وموظفين وأشخاصاً عاديين؛ سيدات ورجال ممن تقطعت بهم سبل الوصول إلى وجهاتهم اليومية، بسبب الأزمات الحياتية العديدة التي هي نتاج طبيعي لحرب ضارية لم نفكر بمتابعة فصولها حتى في أقسى أفلام الخيال، هؤلاء اعتادوا جميعاً اللجوء إلى نقاط المرور الرئيسية، أو إلى الاستعانة بالحواجز، يقفون حيث يتيسر العون للجميع؛ سواء عبر سيارات خاصة تذهب في ذات الاتجاه “دبرولنا هالصبية معكم” وتصعد الصبية ومن معها، أو يأتيك السؤال الذي اعتدنا سماعه “لوين طريقكن؟ ممكن يطلع معكم هالشب”؟!.
طبعاً ممكن! وصعد الشاب “الفتى” الذي في بدايات كل الأشياء الجميلة، بدايات الشباب والزهو؛ وبداية التحاقه بالخدمة العسكرية، مختالاً ببدلته الجميلة، يحمل حاجياته البسيطة في كيس صغير بائس؛ يبحث عن مكان يريح الجسد الصغير المتعب، تلقائياً وسعت السيدة التي تجلس في المقدمة مكاناً فارغاً بقربها؛ المكان الوحيد الذي ينتظر روحاً جميلة تملأ فراغه الكئيب؛ “هل أنت في إجازة يا بني؟” يجيب الفتى أن: “نعم” ويجلس بحياء من في عمره، من الخلف أتى همس ممن يجلس وراءها في الأذن مستنكراً: “هل تعرفين الشاب؟!”. وتلقائياً أيضاً ردت السيدة: “أبداً… أنا فقط أعرف البدلة التي يرتديها”. تبتسم وحب كبير يملأ قلبها!! وفي ذاكرتها تٌستعاد صورة الجندي الذي ألفت رؤيته كل صباح وهي في الطريق إلى مكان عملها، ينظم ويؤدي عمله، ما إن ينتهي حتى تلاحقها كلمتان فقط: “الله معكم” وهو يبتسم وياسمينة معلقة في زاوية فمه على الدوام.
استعدت الحادثة وأنا اقرأ شيئاً يشبه الروح ذاتها روح المحبة والتقدير لمن يتلقى الرصاص في صدره كي نحظى جميعنا؛ أنا وأنت وأنتم؛ بالنوم الهادئ والآمن، حين غص الحلق باللقمة، ما إن لحظ الرجل وهو يتناول وجبته، كيف تمنع نقود الجيب الشحيحة، من يرتدي تلك البدلة من أن يتشارك معه الحصول على ذات الطعام، وكيف تداعت الذكريات به سريعاً؛ إلى حرب تشرين حين سادت روح الشهامة بالسوريين جميعاً، روح حدت بالأمكنة العامة والمطاعم لتقديم وجباتها بالمجان؛ هي أقل وأبخس التقدير، لمن هم درع وحماية الأوطان، روح نحتاجها جميعاً، نحتاج استعادتها، كي تبقى النفوس الأبية، أبية. وتبقى النفوس الباحثة عن القمم، والنسور التي تحمي القمم، وثّابة لا تهدأ ما دامت عين الشر تتربص بالتراب، وما دامت هناك قمم تتراءى؛ ولم نصلها بعد.

دمشق: بشرى الحكيم