ثقافة وفن

في سماء دمشق..

ربما كثر لم يعودوا ليلاحظوا انسيابية طيرانهم الأخاذ، وهم يخترقون الجو صعودا برفيف أجنحتهم العالي الحفيف، قبل أن يبدأ تجمعهم في الزرقة اللامتناهية، مشكلين بطيرانهم الجماعي، العديد من الأشكال البديعة، في سماء دمشق، وعلى امتدادها الأزرق، لم تمنع أصوات القذائف، وضجيج الحرب الصاخبة رفوف الحمام من الطيران كما عادتها فوق أسطح المنازل، أو ما تبقى منها في الأماكن الساخنة، حتى إن الناظر إلى مشهد تلك الأجنحة التي تعتمر الهواء لتهبّ بانسياب أخّاذ، يظن لوهلة أن ما جرى في البلاد مزحة سمجة لا أكثر، وإلا فكيف لهذا الحمام –طير نوح- الذي يعتبر رمزاً للسلام والحياة أن يطير على هذا الارتفاع، ثم يجد له موطئ قدم بين الحرائق والدمار؟!.. إلّا أن سؤالاً بحجم هذا السؤال، لا بد له من مجيب خبير، ومن قد يخبرنا عن السبب أكثر من “كشاش الحمام” الرجل الذي يرعى تلك اليمامات ويعتني بها وجداً وهياماً، حتى لو أن حبه لها ولطيرانها وهديل أجنحتها سبّب له الكثير من المشكلات الاجتماعية والقانونية!.

أبو عذاب – ناجي الأربعيني الذي ترك كل العالم إلّا سرب حماماته، فبعد أن ابتعد وانعزل مع طيوره فترة طويلة من الزمن، صار من الصعب على أبي عذاب التعامل مع الناس “أنا وحماماتي وكاسة شاي، بيفرح قلبي وبطير لما بشوف هالحمامات طايرين وفاردين ريشن” قال أبو عذاب، وتابع: “الحمام رمز الحب، بيكره الحرب، ورح يضل يطير لو شو ما صار”.

أبو عذاب هو اللقب الذي حمله السيد ناجي منذ طفولته، أما أهل الكار فيسمّونه “أبو زووم”، وذلك لأنه قادر على معرفة أية “كشة” حمام تطير في المنطقة مهما ارتفعت في الجو، حيث كان يعيش في منطقة المعضمية، كان المرجع الأبرز لجمهور “الكشاشة” ومحل ثقة في تحكيم أي خصام يدور بينهم على هذا الطير أو ذاك.

“راح بيتي وكل شي بس أكتر شي زعلت عليه وكسر خاطري هو أبو دياب وأبو خاطر والعكيد وسلمى والواوي والإد عشري”، وهذه أسماء حماماته التي سماها تيمّناً بشخصيات المسلسل الشهير “باب الحارة” “منن هرب وراح ومنن مات وما عاد أعرف وين أراضيهم”.

أبو عذاب يربي الحمام، ويرعاه لا للتجارة، فكل طير عنده هو بمنزلة ابن له، يطعمه من فمه، ويعلم أي الحمامات هي المريضة من “قلبة جناحها” “الحمام مو للتجارة، واحد بيبيع حبايبو” ختم أبو عذاب. إلّا أن التجارة لن تغيب أيضاً عن هذا الكار، الذي حوّله بعضهم إلى مشروع تجاري، وخصوصاً أن لبعض أنواع الحمام أسعاراً قد تصل إلى مئة ألف للطير الواحد، أبو راشد الذي بدأت حكايته مع الحمام بحبّه له وعشقه لطيرانه، وجد نفسه تحت ضغط الحياة مضطراً لأن يكون ما يهواه هو عمله أيضاً “في ناس بتفكرنا عم نتسلى ونلعب وأبصر شو بيحكو علينا، بس بتعرف أنو مدخوليتي أكتر من مدخوليتك بعشر مرات” قال أبو راشد، ثم راح يجيب على جواله، لينهي مفاصلة على سعر “البني” أحد طيوره الثمينة، وهو لم يرضَ بـ75 ألفاً كسعر نهائي مع “جوز حمام شامي”.

بين محبّ للحمام للمتعة والفرح الحسي النفسي الذي يسبّبه ذاك الجمال الباهر لتحليق الحمام في السماء الزرقاء، وتاجر يسترزق من هواية يحبّها أيضاً، يبقى “كشاش الحمام” صاحب سمعة مشكوك فيها، وذلك لأسباب عديدة لسنا في وارد الخوض فيها الآن، لكن لا ريب أنه يحب ما يفعل ويشعر بالسلام الداخلي فيه.

ومع كاسة شاي مختمرة وساخنة، قام أبو عذاب بتطيير “كشته” إلى السماء ليرينا سبب فرحه، وهو ينادي عليها بأصوات لا يفهمها إلّا هو وهي، عدا ذلك كان الحمام، الذي يطير فوق النار والموت والحرب، جميلاً بارعاً وأخاذاً، يسحر القلوب.

تمّام علي بركات