اخترنا لك

ماتت الفلسفة.. عاشت «داعش».!

يشكل اليوم العالمي للفلسفة محفزاً للحديث عن الواقع العربي، من جهة الضمور الفلسفي الذي يصيب هذا الواقع، وليس من زاوية تناول الأحوال العربية بمقاربات فلسفية. ذلك أن ما يربط العرب بالفلسفة، في عصرنا الراهن، ينعكس أولاً في غياب البعد الفلسفي ـ بما هو نمط متقدم من المعرفة ـ عن مناخاتهم الثقافية والمعرفية، ويستبين ثانياً في استعصاء الظاهرة العربية على المناهج والتحليلات الفلسفية بوصفها خارج المعايير المنطقية، وأكثر انحطاطا من أن تنهض بها فلسفة.

إن إعمال النقد الفلسفي إزاء واقع ما، يفضي إلى استخراج الإشكاليات والعمل على حلها، وأيضا إلى استبيان المفارقات والفروقات لإزالة التناقض القائم بينها. غير أن إعمال مثل هذا النقد في الواقع العربي من شأنه أن يفضي إلى إطاحة كل مسلمات الفلسفة من قبيل مبدأ الهوية والثالث المرفوع وعدم اجتماع النقيضين وقاعدة العلية. ذلك أن كل معلول لا بد أن يصدر عن علة موجبة له، في حين لا شي من العلل يوجب على الشعوب العربية أن تكون على ما هي عليه من واقع يحيا بفعل انعدام موجبات الموت وليس ببواعث الحياة.

لقد انتقل العالم الغربي من الحداثة إلى ما بعدها، بينما انتقل العالم العربي من التاريخ إلى ما قبله. في الغرب، تقدمت الفلسفة من الميتافيزيقا إلى فلسفات العلوم، وتقاعدت عن العمل مكرمة لصالح العلم والتكنولوجيا، وانتقلت من دراسة الوجود إلى كيفية الحفاظ عليه، وتحولت من الكليات إلى لملمة الأجزاء في إطار كلي واحد. فيما تراجعت الفلسفة في بلاد العرب من الميتافيزيقا إلى الخرافة، وتم اغتيالها بشراكة بين الدين والسياسة خوفا مما تحمله من نقد وحرية، كما تم الاستغناء عن كلياتها واستعيض عنها بجزئيات شيطانية، حيث لا وجود عربيا يستدعي تأملاً فلسفياً بل وجودات كثيرة لا يجمع بينها سوى كليات سالبة.

قيل كثيراً إن الفلسفات محددة للواقع ومنتجة للوقائع، إلا في العالم العربي، فإن الوقائع قد ألغت التأملات الفلسفية وتفوقت عليها. فالعرب في القرن ما بعد العشرين استبدلوا الفلسفة القائمة على الحرية والتحري عن الحقيقة إلى ايديولوجيات مقفلة على حقائق معدة سلفا ومطهوة على مذاق المؤسسة الدينية، ولا تُرى إلا وفق ما يراه الزعيم. وبحسب منطق التاريخ، فإن الثورات الكبرى إما أن تكون نتاج فلسفة نظرية (الثورة الإيرانية)، وإما أن تكون منتجة لفلسفات عملية (الثورة الفرنسية). وحده الواقع العربي في ثوراته الربيعية ظل خارج هذا المنطق، حيث لم تكن هذه «الثورات» مسبوقة سوى بالتخلف، ولم يعقبها غير الفوضى والتناحر والعصبيات.

ما يشهده العالم العربي اليوم إطاحة إخبارية بالمعارف العقلية من منطق وفلسفة وعلم كلام. وعلى غرار ما ذهب اليه بعض الفقهاء عبر التاريخ من تكفيرالمشتغلين بالفلسفة، فإن التكفير المعاصر ينال من المنطق كله والعقلانية بأشكالها كافة.

لا شيء ينطبق على الواقع العربي أكثر من مقولة سقراط بأنه لا يعرف سوى أنّه لا يعرف. وليس ما ينقض ما قاله أرسطو من ان «الفلسفة تتكفل بالإجابة على سؤال الدهشة» سوى المجتمع العربي، حيث تغيب الأسئلة الكبرى عند الناس وهم في حالة اندهاش دائم. كما لا شيء أكثر من العالم العربي يشكل إجابة شافية على تساؤل لايبنتز: «لماذا ثمة شيء وليس بالأحرى لا شيء».

في بلاد العرب، ماتت الفلسفة.. فعاشت «داعش».!

 

صحيفة السفير – حبيب فياض