مساحة حرة

ما بين اغتيال الأب.. والابن الرهينة

حين تعود بنا الذاكرة إلى اتفاق الطائف 1989 الذي “يُقال” إنه وضع حداً للحرب الأهلية في لبنان، فإننا نجد من طرف آخر أن هذا الاتفاق حمل إلى لبنان وبعض دول المنطقة «العراق مثلاً» أنموذجاً صارخاً للطائفية السياسية المستدامة والمستساغة سياسياً ودستورياً، وعلى مضض مجتمعياً، كحلٍّ لا بدّ منه على أنه أفضل الحلول السيّئة.

منذ تلك الأيام والأخطاء الناجمة عن الطائفية السياسية، والمال السياسي، وعائلات النخبة، تعصف بتطلعات اللبنانيين كشعب ديناميكي مستنير يملك أبناؤه توقاً إلى الحياة، وفاعلية في مختلف ميادينها الوطنية والسياسية والحزبية والفكرية والمهنية.

ومنذ تلك الأيام ونظام آل سعود يعمل على استغلال اتفاق الطائف على عكس ما اتُفق عليه، فتخرج الحرب الأهلية من النوافذ لتدخل من الأبواب، وعلى هذا الأساس أدّت السياسة السعودية في لبنان -المال السياسي والحريرية السياسية- دوراً وظيفياً مناهضاً للتيارات الوطنية والعروبية في المجتمع اللبناني.

طيلة أيام الحريري الأب كان هناك تجاذبات متباينة عديدة استطاعت سورية ضبطها وفق تفاهمات واتفاقات وأوجه عديدة من التعاون والتنسيق… وصولاً إلى جريمة اغتيال الحريري الأب وما نجم عنها من توظيف إقليمي مرير عانى منه اللبنانيون والسوريون ما عانوه، ولعب النظام السعودي أخبث الألاعيب…. وبالمرصاد كان الوعي اللبناني المناهض للمشروع الصهيوني الرجعي العربي، هذا الوعي مثّله حضور المقاومة نهجاً وثقافةً وقوة اجتماعية وسياسية وعسكرية ضاربة لأهداف هذا المشروع في لبنان  وفي المنطقة.

مع هذا التقدّم على الأرض الذي فرضته المقاومة  في مختلف الميادين شعر الأمريكان والفرنسيون والصهاينة وآل سعود بخيبة آمال كبيرة ودائمة على ما بدا وسيستمر، وكان أمامهم المتاجرة بدم الحريري الأب مدخلاً أساسياً للعبث بلبنان وفلسطين وسورية، وطال هذا العبث الأمة والقضية المركزية لتعزيز المشروع الصهيوأطلسي الرجعي العربي. بالمقابل تمكنت الاستراتيجية العروبية لسورية بدعمها للتيار الوطني العروبي المقاوم في لبنان من إغلاق هذا المدخل مرات عديدة وصولاً إلى تكريس الدور المتكامل لثلاثية “الشعب والجيش والمقاومة” التي كان من بين ضحاياها الحريري الأب.

وكان على النظام السعودي أن يجتهد لينجح في دوره الوظيفي المناهض لمقاومة الاحتلال والتطبيع والاستسلام، كما كان على سورية والمقاومة اللبنانية أن تحطّما هذا الدور.

في هذه الأيام تغيّرت الوظائف والأدوار، ومع طفو الآثار التدميرية للمشروع الصهيو-وهابي في المنطقة كان لابد للنظام السعودي من تجديد الحضور المناهض للتيارات الوطنية والعروبية التحريرية المقاومة، ولم يعد أحد في العالم يستطيع أن ينكر حضور هذا النظام الداعم لأغلب العصابات التكفيرية والمتطرفة والإرهابية.

وبمعطيات المنطق والواقع وكما يُقال ارتد السحر على الساحر وبدأ النظام يئن تحت وطأة شروره وأضغاث أحلامه كقوة شرّ فاعلة في بلدان المنطقة وفي مجتمعاتها بل حتى في مؤسساتها، فازداد ارتباكه وبدأ يخبط خبط عشواء داخلياً وإقليمياً ودولياً، ومع ازدياد جرائمه على الساحات العربية والإسلامية لجأ إلى ما يُعرف بتصدير الأزمة إلى خارج الحدود.

نقل آل سعود أزماتهم الداخلية إلى أغلب البلدان العربية وصولاً إلى بلدان الخليج وخاصة قطر، لكن هذا لم يكفِ فحكّام قطر هم الأدرى بمسلسل الجريمة والتآمر والخزي، فكان لبنان مؤخراً مخرجاً مناسباً لتصفية عدد من الحسابات السلطوية والسياسية والمالية.

في هذا الواقع كان الحريري الابن وقد طال ارتهانه منذ أكثر من عقد من الزمن حلاً من الحلول المتاحة في مخيلة النظام السعودي الطالع إلى الحياة بوجه جديد لم يعد التنسيق مع إرهاب الصهيونية قناعه الخفي، ولا مع إرهاب التطرف والتكفير الآخذ بالاندحار. وكانت مهزلة إعلان الاستقالة من رئاسة الحكومة، تلك المهزلة التي لم يبقَ وخلال 24 ساعة لمجتهد فيها نصيب من تحليل جديد.

النظام السعودي يرى في مهزلة الاستقالة طريقاً إلى الخروج من أزمات عديدة وهو يواجه أعداء الداخل ولاسيما من الأسرة الحاكمة، ومن ورطَتِه في اليمن وسورية والعراق ومصر وقطر والبحرين…إلخ

الحريري الرهينة لايقدم مخرجاً لهزال النظام وهو يعلن انبطاحه أمام المشروع الصهيوأمريكي لضرب المقاومة مع لبنان وسورية والعراق واليمن وفلسطين والجمهورية الإسلامية.

هذا النظام الذي يتاجر بالرهينة صار رهينة مثله وهو يظن أن بإمكانه أن يشعل فتنة في لبنان تعصف بتجدد حضور تكاتف الشعب والجيش والمقاومة في ضرب الإرهاب في لبنان وسورية.

ويسوّغ لنفسه هذه الخِسّة والنذالة وهو يهدد خصوم الإرهاب الصهيوني والتكفيري، وينسى أن الناس يتندّرون على عجزه في دول الجوار: اليمن وقطر… يهدد، وقديماً قيل في السخرية من هكذا تهديد:…. أبشر بطول سلامة يا مِربعُ. كما يتندرون على تصريحات الوزير السبهان “والسبهان في اللغة والصرف: من ذهب عقله دون رجعة”.

سيتفاجأ آل سعود، ومع المفاجأة خزي بأن استباحتهم لكرامة الابن، أو للقليل الباقي منها، كان دون جدوى، فلا سبيل أمامهم للرهان على خلايا نائمة في لبنان، ولا إمكانية لتوتير الأجواء بين المكونات السياسية والاجتماعية فيه، وسيظهر أن التضحية بورقة الحريري الابن كانت أمرّ من استغلالهم ورقة الحريري الأب.

فإذا عاد الابن، أو لم يعد، فإن وعي شعبنا في لبنان سيثبت أن المال السياسي ولاسيما الخليجي منه قد هزمته المقاومة بقدرتها على هزيمة المشاريع المضادة الرديفة، ولن تفيد آل سعود المباركة الصهيوأمريكية لتكامل أضغاث الأحلام البائسة.

د. عبد اللطيف عمران