مساحة حرة

مجدداً.. الغرب والإسلام

طال الزمن الذي لم يعدْ يعرف فيه المسلمون – والعرب منهم خاصة – أن الغرب لا يفرّق من حيث الاستهداف بين المسلمين والإسلام. فتقسيمه المسلمين «كبشر» إلى معتدلين ومقاومين وجهاديين… لا يعني أنه يفضّل فريقاً على آخر من حيث المبدأ أو من حيث الهدف، فالمسألة مسألة استثمار، وكذلك الأمر في نظرته إلى الإسلام «كدين».. وإذا كان هناك من فروق فهي مرحليّة وليست مبدئية، وهي تابعة للاستراتيجية القائمة على الهدف، والمكان، والزمان.

والغرب لا يفرّق أيضاً بين الإسلام والعروبة من حيث ضراوة الاستهداف، فلا يجهل ولا يتجاهل تاريخية العلاقة بينهما ولا سيما الجوانب الإيجابية المعطاء منها، فهو يستهدف المشروع القومي العروبي في الوقت نفسه الذي يستهدف فيه الإسلام والمسلمين.

وبناء عليه، يعمل الغرب اليوم على صياغة إسلام وفق منظوره الوظيفي «الصهيوأطلسي» فيجعل هناك علاقة تضاد وصدام بين «الإسلام المعتدل» و«الإسلام المقاوم»، وهو في دأبه على صياغة إسلام جديد وظيفي ينطلق من رؤية بل مشروع ما بعد كولونيالي «استعماري» حديث ومعاصر يلعب فيه مستشارو الأمن القومي الأمريكي والمحافظون الجدد دوراً خبيثاً مؤذياً أفضى إلى ما وصلت إليه الحال الراهنة للشعوب والدول العربية والإسلامية من تشرذم واقتتال وضعف من أبرز تجلياته ما يسمّى بالربيع العربي.

تئنّ الشعوب العربية والإسلامية اليوم تحت وطأة نتائج البحث السوسيولوجي «الاجتماعي» لمراكز الأبحاث وصنع القرار في الغرب الهادفة إلى «إضرام معركة الأفكار» بين أطياف هذه الشعوب على أسس قومية ومذهبية وعرقية، من خلال الاجتهاد لإحداث التقسيم والانقسام، فالفتنة والاقتتال المستمر ما يدفع الأجيال طواعية إلى اليأس والاستسلام.

ولا يخفى على المتابع اجتهاد الغرب على مذهبة الاعتدال السياسي عند العرب والمسلمين، وبالمقابل اجتهاده على مذهبة المشروع المقاوم للتحالف الصهيوأطلسي – الرجعي العربي، وعلى مذهبة التطرف والتكفير أيضاً عند العرب والمسلمين، فيغدو القصف الوهابي للشعب اليمني اعتدالاً، ونضال الإسلام السياسي ضد المشروع الصهيوني محورَ شر وإرهاب. في الوقت الذي ينظر فيه هذا الغرب إلى المسلمين كافة: تركيا وإيران – حماس وحزب الله.. على أنهم يملكون هوية جماعية ثقافية وروحية وسياسية «أزمة تركيا اليوم».

إنه الاجتهاد الغربي الفاضح لصياغة إسلام جديد وفق الاعتبارات الصهيوغربية بمال خليجي تتجلى نتائجه بتصريحات ترامب وهو يوضّح لحكام الخليج مشروعيّة مطالبتهم بضرائب عرفها التراث الإسلامي سابقاً وعليهم أن يسددوها كرهاً أو طواعية، فإذا كانت هناك ضريبة الجزية «على الأنفس» والخراج «على الأرض» فعلى حكام الخليج أن يدفعوا ضريبة الجزية «حماية الحكام» والخراج «على البترودولار».

هذا التوجه بدأ واضحاً وصريحاً في الغرب ولاسيما الإدارة الأمريكية وتحديداً بعد سقوط التجربة الشيوعية في أوروبا الشرقية، لكن المشكلة هي عند من لا يقرأ، فبعد انتهاء العداء للشيوعية كان لا بد من عدو، وصار العدو هو الإسلام كما أعلن مستشارو الأمن القومي الأمريكي في مطلع التسعينيات ولا سيما فوكوياما وهنتنغتون، والأخير رأى في طرحه لضرورة «صدام الحضارات» أن «الإسلام بكل طوائفه وأقسامه عبارة عن نسق كامل لن يلتقي أبداً مع نظام الدولة في الغرب» – بالمناسبة صموئيل هنتنغتون هذا حفيد صموئيل هنتنغتون الذي هو أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، وحوش الإبادة والاستيطان -، وكانت هناك ردود دولية على هذا الطرح الخطير رأى بعضها أن «مستشاري الأمن القومي الأمريكي وأسامة بن لادن وجهان لعملة واحدة».. ما أدى إلى ظهور مؤلفات عديدة تعالج هذه القضايا منها الكتاب المهم للمفكر الباكستاني أكبر أحمد «الإسلام وما بعد الحداثة».

اليوم يغدو التساؤل مهماً: هل التنظيمات الجهادية مختلقة أم هي مخترقة؟. مفكرو الغرب يحاولون تبرئة أنفسهم ويقولون هذه أصولية إسلامية تاريخية. والحقيقة أنهم خلقوا هذه التنظيمات واخترقوها في الوقت نفسه، فالوقائع تثبت رعايتهم وحمايتهم لها ولداعش تحديداً، وها هم يقرّون بأن داعش إذا انهزم من المواجهة العسكرية وعلى الأرض، فإن أعداده تتزايد كتنظيم سرّي ولا سيما في العراق وسورية.. «لماذا ليس في الخليج ومصر مثلاً؟!».

إن التركيز الغربي على تجديد وظيفة الإسلام المعاصر مقلق جداً ولا سيما للعرب، لأنه يستهدف أول ما يستهدف مشروعهم القومي وقضيتهم المركزية فلسطين. ولذلك علينا ألّا نتجاوز عضوية العلاقة بين العروبة والإسلام. هذا التركيز الخطير جعل المسلم الوطني العروبي العلماني المستنير أمام شبكة من التحديات الداخلية والخارجية «مثالها بعض ما عانته وما تعانيه المؤسسة الدينية الوطنية في سورية».

وهنا لا ضير في النقاش العسير، والخلاف على السباق لتحقيق الهدف فقط وهو المصلحة الوطنية والقومية.. وعلينا أن نتذكر أن الدساتير الوطنية التي نتجت عن حركة التحرر الوطني العربية كلها أعطت الإسلام دوراً مهماً في بناء الوطن وإدارة شؤونه نظراً لما كان للدين من دور في حركة النهضة والتحرر والاستقلال الوطني العربية.

من هذا الجانب ننظر باهتمام إلى التركيز المنهجي المقترن بالتوضيح والتفصيل والاستدلال للقائد بشار الأسد على عضوية العلاقة البنّاءة بين العروبة والإسلام. كان هذا التركيز خلال الأزمة، تحديداً، بارزاً ومنطلقاً من رؤية سيادته الهادفة إلى مواجهة العدوان على العروبة والاستثمار المضاد باسم الإسلام.

د. عبد اللطيف عمران