ثقافة وفن

مذابح الأرمن.. في عيون “لقيطة اسطنبول”

(إن المرء يرتبط بالماضي على الدوام، ولا يمكن له أن يتقدم نحو المستقبل من غيره.. أعتقد أن الذاكرة هي مسؤولية، وأنا أنتقد بلدي تركيا بسبب رفضها مواجهة حقائق عام 1915: “المجازر التركية بحق الأرمن”)..

يكاد هذا الكلام للكاتبة التركية إليف شافاق يضع تركيا في مواجهة مباشرة أمام الجريمة المروعة التي ارتكبتها السلطة التركية بحق الأرمن في ذلك الوقت من عمليات إبادة وتهجير وتشريد للملايين في بلاد الشتات، ولاريب أن المعاناة التي يرويها الناجون من هذه المأساة بألم وحرقة لهي خير شاهد على ما جرى في ذلك الحين.

ولعل للأدب دوره الفاعل في هذا المجال كي يقوم بالمهمة التي خلق من أجلها، فعليه تقع مسؤولية نقل الحقيقة وتصوير الواقع كما هو، ومهما كان مراً وقاسياً، في سبيل محاولة النهوض به نحو الجمال والكمال.

وتبوأت الأديبة إليف شافاق المكانة البارزة في ذلك، حيث استطاعت أن تكون الرائدة بين كتّاب بلدها حين اختارت لنفسها أن تنتصر للحق أياً كانت النتائج، متصدية بقلمها للظلم، واضعة نفسها في رحم معاناة مرة تنضح بالذكريات المؤلمة والقاسية؛ مذابح الأرمن، من خلال رواية حصدت إعجاب الأوساط الأدبية والنقدية..

لقيطة اسطنبول..

تتحدث الرواية عن فتاة أرمنية تعيش في بلاد المهجر نتيجة التهجير القسري الذي تعرضت له عائلتها خوفاً من المذابح التي ارتكبت بحق الأرمن آنذاك، ثم تحاول الفتاة الوصول إلى جذورها وأصولها لتسير الرواية في خطين متوازيين أحدهما يمثل العائلة الأرمنية التي تعيش فيها الفتاة وذلك في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي أيضاً تمثل الشريحة الواسعة من الأرمن الذين يعيشون في بلاد الشتات جراء عمليات التهجير، فيتخذون من المأساة المريرة التي عاشوها واختزنوها داخلهم وأورثوها لأولادهم، ذاكرة حاضرة في كل نفس وفي كل تفصيل من تفاصيل عيشهم.

والعائلة الثانية هي العائلة التركية التي تمثل الضياع بين العادات والتقاليد المتوارثة وبين الحداثة التي يحاول الأتراك استيرادها من الغرب، محاولين الهروب من الماضي والذاكرة المؤلمة لتصبح حياتهم هجينة مليئة بالتناقضات والصراعات التي تسود معظم فئات المجتمع التركي، ولعل تسمية اللقيطة التي اختارتها الروائية كعنوان لروايتها تشكل المعادل الموضوعي لتركيا الحديثة التي تحاول التفلت من تاريخها والعيش بلا ماض أو ذاكرة.

تنقل لنا الرواية وبتمكن عمق الصورة وحقيقتها في النسيج التركي والأرمني على حد سواء، وذلك من خلال التطرق لمذابح الأرمن مباشرة من خلال ما ترويه شخصيات الرواية عن المذابح، أو بشكل غير مباشر من خلال تداعيات تلك المأساة على المواطن الأرمني والتركي ودخولها في أدق جزئيات حياتهم.

حيث تنبض الأحداث بالتفاصيل التي تتوالد على مدى مساحات زمنية واسعة وأمكنة مختلفة لترصد مصائر شخصيات أرمنية وتركية في ضوء علاقات متشابكة ومعقدة نتيجة الأزمة الإنسانية الأرمنية التي ورغم محاولة تجاهلها أو نسيانها إلا أنها تبقى راسخة في ذاكرتهم تلح عليهم وتسكنهم لتخلق مجتمعاً مضطرباً، ضائعاً بين ذاكرة مؤلمة يحاول الهروب منها وحاضر لا يستطيع التأقلم معه.

استطاعت إليف من خلال ثقافتها المتنوعة التي استمدتها من تنقلها بين تركيا وبلاد المهجر أن تمتلك القدرة على سبر عوالم شخوصها والتحدث بلسانهم، كما يحسب لها هذه القدرة على التشويق وجذب القارىء من خلال تلك الأسرار والألغاز التي تحيط بها الرواية من البداية للنهاية.

تعتبر الرواية وثيقة تاريخية يستند إليها ويعتد بها في معرفة حقائق هذه المأساة المؤلمة، حيث أكدت شافاق أنها نقلت وقائعها من أناس عاشوها وأخبروها بتفاصيلها واعتمدت في ذلك على لقاءات حية مع العائلات الأرمنية في بيوتهم في المهجر، وجمعت شهادات شفهية مروية، إضافة للأفلام الوثائقية التي شاهدتها والتي توثق لهذه الواقعة التي تندى لها جبين الإنسانية.

اتهم القضاء التركي إليف بعد صدور هذه الرواية بإهانة التركية واستمرت محاكمتها لمدة عام كامل لتسقط عنها التهمة فيما بعد، كما أن هناك مظاهرات نظمت ضدها في شوارع تركيا.

أول إصدار للرواية كان عام 2007  وصدرت باللغة الإنكليزية وحققت أعلى المبيعات في تركيا، أما الإصدار المترجم للعربية كان في عام 2013.

 

هديل فيزو