مساحة حرة

«مستعدون للتفاوض حول كل شيء»

أثار تصريح سيادة الرئيس بشار الأسد أول أمس لوسائل الإعلام الفرنسية “مستعدون للتفاوض حول كل شيء” ردود فعل عديدة، وآراء متباينة في الرأي العام المحلي والإقليمي والدولي، فتناقلته وتفاعلت معه مختلف الأوساط السياسيّة والإعلاميّة والديبلوماسيّة، والشعبيّة أيضاً.

بعض هذه الردود رأى في التصريح صدى للانتصار الميداني في حلب، ولتقدّم قواتنا المسلحة في أرجاء عديدة على أرض الوطن إضافة إلى ازدياد أعداد المسلحين المتوافدين إلى تسوية أوضاعهم مع توسّع دائرة المصالحات المحليّة.

وبعضها الآخر رأى أن لا شيء مستجداً ومفارقاً، فالتصريح ليس صدى للميدان، ولطالما أكّد الرئيس الأسد ومنذ الأيام الأولى للأزمة على الحوار والإصلاح والتسامح، ولم تلقَ المبادرة الوطنية، التي بدأت الحكومة العمل بها وفق ما ورد في كلمة سيادته في 6/1/2013، من العصابات المسلحة وحلفائها وداعميها الاستجابة اللازمة، بل على العكس استطار شرر الإرهاب والتخريب ليعم ما أمكن من بنىً فوقية وتحتية في مختلف أرجاء البلاد.

كما أنّ هناك كثيرين ممن راودهم قلق التساؤل من أن هذا التصريح أتى بعد أسبوع من رأي السيد الرئيس في أن “الحل هو في أن يسامح الجميع الجميع”، حيث أننا لانستطيع أن ننكر وجود شرائح وطنية عروبية تقدمية واسعة من جماهير شعبنا ترى أن آثار التطرّف التكفيري أنتج بالمقابل تشدداً وصلابة وتصميماً على التضحية بكل ما يمكن في سبيل سحق وحوش العصر دون هوادة، إذ لا ضير في الصراع حتى النهاية، فلا جدوى من المسامحة والمصالحة مع الظلاميين أعداء الدين والشعب والوطن والقضية المركزية، خاصةً أن هذه الشرائح رأت أن المجتمع الدولي بقراراته، وبتكالب التحالف الصهيوأطلسي الرجعي العربي كان مشغولاً دائماً بتقديم ضمانات واقعية ومستقبلية لمجموعات إرهابية عديدة مجرمة فعلياً.

إذن، هل نحن في قادم الأيام في أستانة أو في جنيف 8 شباط أو بعدهما أمام قضايا جديدة أو مفاجئة؟

لا شك في أن الجواب في مرمى الأطراف الأخرى التي لاتزال أبواب الخيارات مفتوحة أمامها منذ أول أيام الأزمة، وهي رغم أخطائها الكبرى القاتلة لاتزال تحظى «محسودةً» بالخيار تلو الخيار. لكن حقيقةً لا خيارَ لمن لا قرارَ له. ما يعني أن المشكلة في أصحاب القرار، وهذا ما أوضحه السيد الرئيس بالأمس، ومراراً عديدة، إذ لم يتضح بدقة من سنفاوض، وما هي مرجعيته، وإنْ كان المسار السياسي للحل مؤخراً اجتهد في مسألة «الضامن».

وعلى أية حال، وحول «كل شيء»، فإننا أمام متغيرات أبعد من الميدان وهي الأهم، فقد ارتفعت أصوات عديدة في المجتمع الدولي لأصحاب قرار أو رأي تعترف بالخطأ بحق سورية شعباً ودولة وطنية وقيادة سياسية، وكثيرون يقولون: لقد أخطأنا، وستتسع دائرة الاعتراف هذه مستقبلاً. فلم يعد مثلاً بإمكان تركيا نكران خطئها عبر تصريحات عديدة آخرها للمتحدث باسم الحكومة نعمان قورطولموش: أنا أحد أولئك الذين يقرون بخطأ سياستنا في سورية.. إلخ. ويبدو أن الأمريكان يقولون كذلك، فما سُرّب عن اعتراف الخارجية الأمريكية بدعم الإرهاب هو صحيح، وحتى أردوغان أكده لكن على مزاجه المضطرب التائه، وكان رأي السيد تييري مارياني عضو الجمعية الوطنية الفرنسية صدى للرأي العام المتسع في الغرب والعالم حين قال إن بلاده وحكومتها تحديداً ترزح تحت وطأة «التسمم الصحفي».

إلا أن العقل الرجعي العربي المتخم بالجمود وبالصدمة والمستبد بعقول المجموعات المسلحة لم يستطع أن يدرك مغزى هذه الاعترافات وأسبابها فردد كلاماً أكل الزمن عليه وشرب.

وكما أننا أمام متغيرات، فإننا بالمقابل أمام ثوابت وطنية راسخة بنى عليها السيد الرئيس تصريحه المنطلق من استمرار قوة الدولة الوطنية سياسياً واجتماعياً وعسكرياً، قوةً تحيلنا إلى البناء على جوهر سورية: التنوع والتعدد والتسامح والاعتدال، ولذلك لم يكن في يوم من الأيام “الصراع حتى النهاية” خياراً إنسانياً ولا وطنياً في أبجديات دبلوماسية دمشق.

لذلك يجمع السيد الرئيس في تصريحه بين الخيار الوطني والخيار الإنساني والخيار الشخصي، فيعطي أفقاً أوسع للمسار السياسي، ويضع المعارضة على المحك الصعب أمام هذه الخيارات.

وعلى هذا الأساس نفاوض كدولة في كل شيء انطلاقاً من الاحترام الدائم لخيار الشعب السوري الذي لا تفرضه لا الحكومة ولا المعارضة. في حين نعرف كيف تمادت الأطراف الأخرى ودون جدوى في الإنصات لمشغليها، فأساءت للشعب وللوطن وللدولة.

د. عبد اللطيف عمران