ثقافة وفن

معاناة بائعة الكبريت في… «يحيا السلام»

حذاء أكبر من مقاس قدمها، ورداء لا يقيها من زمهرير الثلج، وحرمان من نشوة الفرح بعيد رأس السنة… وغيرها الكثير من التفاصيل التي تثير الحزن والألم ومعاناة طفلة في عمل مرهق لا يتناسب مع سنّها، وكلّ هذا وأكثر من المشاهد التي تقدّمها لنا الذاكرة عندما نعود للقصة المشهورة لبائعة الكبريت، إلا أنّ المفارقة بدت كبيرة في مسرح العرائس بدمشق، وبالتحديد في عرض (يحيا السلام) حيث تمّت معالجة المسرحيّة لتكون بائعة الكبريت ذات وجه مبتسم ومتحدٍ للواقع المرير مع سلوك يوحي بالشخصية المتمردة.

وجاء النص لطلال لبابيدي والإخراج لكمال بدر الذي برر لنا منذ البداية بقوله:” البداية جائت من رغبتي في تقديم شيء يروي عن الظرف الذي نعيشه والهمّ الذي نحيا به، فاخترت نصّ بائعة الكبريت نظراً للمعاناة التي ترويها هذه القصة والظرف الذي عاشته، والمراهنة جائت من خلال تقديم ما هو قبيح بصورة جميلة للأطفال، وذلك لأنّ الشرائح العمرية الصغيرة لا تحتمل عيش المأساة الحقيقية لبائعة الكبريت، وكان لدي عدّة مستويات ساعدتني كمستوى الدمى ومستوى الصورة والموسيقى وكلّها عناصر مكتملة جعلت من المعادلة جاذبة للكبير والصغير”.

أربع مستويات تداخلت مع بعضها في عرضٍ جذب ولمّ الأطفال ضمن ظروف لم تكن مواتية لتمكن جميع الأطفال من الدخول إلى مسرح عالم العرائس، وقد حملت لحظة ما قبل البداية حالة من الفرح والتصفيق تابعها الفنان (داود شامي) الذي أتقن دور الراوي بالتصفيق وتشجيع الأطفال بعد أنّ ظهر من بين الصفوف الأخيرة للجمهور فجأةً، وعند هذه اللحظة بدأ العرض في حوارية بين الراوي والأطفال وبعض الأسئلة التحريضية منه لهم لتظهر دمية اسمها (فهيمة) أدّت صوتها الفنانة (آلاء مصري زادة) تشاركهم الحال بطريقة فضولية وحشرية حملت نوع من التشويق للأطفال، ونوع من الحذر في التعامل معها، والتعاطف مع الراوي بآنٍ واحد، كونها كثيرة الكلام وغير مجتهدة وبكائة.

 ومن هذا المستوى ينتقل الراوي للدخول في عوالم قصة بائعة الكبريت التي جسّدتها الفنانة (مي مرهج) القصة المشهورة لمبدعها هانز أندرسن، وجائت المعالجة الدرامية لطيفة ومناسبة لأعمار متفاوتة لمرحلة الطفولة وما بعدها بالرغم من الملاحظات البسيطة والتي كانت واضحة، فمثلاً في معظم مشاهد قصة بائعة الكبريت يأتي الوصف بملامح الحزن الشديد والفقر المدقع والمرض المهلك وظلم زوج الأمّ لها … مما يدعو إلى وجود وجه يعاني ومتهالك من شدّة التعب والإرهاق، إلا أنّ الشخصية كانت تمتزج بالتفاؤل والابتسام الدائم والفرح، وأيضاً لجوء بائعة الكبريت إلى الخيال هو نوع من الهرب من واقعها المرير، بينما جائت المسرحيّة لتضيف قيمة جديدة من التمتع بالخيال ونسج عوالم غريبة منها شخصية (بينوكيو) والتي هي بدورها شخصية مشهورة من رواية عالمية أخرى، وكذلك الأمر حملت الخاتمة مساراً مختلفاً عن النهاية الحقيقية لبائعة الكبريت في النصّ الأساسي فتمّت معالجة النهاية بطريقة روائية وقعت على عاتق الراوي بوصف لم يكن مؤهلاً أبداً لوضع حدٍ لمشكلة بائعة الكبريت مع زوج الأمّ الذي أداها الفنان (عبد السلام بدوي) فبدت النهاية غير واضحة وغير مناسبة لأحداث المسرحيّة، ومع قسوة زوج الأمّ التي ظهرت بقوة انتهت الأحداث فجأة باتخاذ قرار من بائعة الكبريت ولكن على لسان الراوي، وهكذا كان الحلّ حسب الرؤية الإخراجية للعرض، وبعد ذلك يعود العرض لمحاورة جديدة بين الراوي والأطفال وبمشاركة الدمية التي تقرر أنّ تكون جيدة مع أهلها ومخلصة لدراستها، وفي هذا المستوى يلعب الراوي أيضاً دوراً توجيهياً مباشراً للأطفال إذّ يشجعهم على القيم الإيجابية ويعيب السيئة منها وينوه لفكرة عدم استخدام أعواد الثقاب في البيت كي لا تسبب مشكلة لا يمكن تفاديها وغير ذلك من النصائح الأمريّة، وقد فات المخرج أنّ المباشرة في ذلك التوجيه يشوّه حالة الإبداع التي قد يصل لها الطفل من خلال عيشه للحالة، وترك العنان لخياله في رسم صور غير متوقعة بمعنى أنّ القوالب الجاهزة سوف تكن عبئاً مزعجاً للطفل الذي يتلقى النصيحة بهذا الطرح.

ش1

  نهاية العرض جاء بأغنية عن السلام تحمل تحية وتشجيع لهذه القيمة في نفوس الأطفال – ومنها جاء اسم العرض ( يحيا السلام ) – وقد حملت استعراضاً لدمى أطفال من كلّ أنحاء الأرض  ابتداءاً بالياباني ثم الأوربي فالأفريقي وأخيراً العربي، لكن الأغنية جاءت من السذاجة بالشيء الكثير، فأن يكون العالم زهرياً بالشكل الذي قدمته الأغنية للأطفال! فهذه نقطة لا بدّ من التعليق عليها فالسلام لا يمكن أن يحيا بهذه البساطة لا سيما ونحن في هذه الظروف المرهقة التي لا يمكن إخفائها عن الأطفال، كما جاءت التحيّة للأوربي جارحة وفي غير مكانها على الأقل حالياً، وهذا طبعاً بالنسبة للكبار الذين تابعوا العرض وربما للصغار أيضاً الذين ينتمون لهمٍّ مشترك معاً، وما يميز الأغنية إيجابياً هو أنّ الدمية التي جسدت العربي كانت ترتدي العلم السوري مرسوماً على ثيابه وقبعته وهذه إشارة واضحة إلى أن السوري لدينا هو من يحمل الرمز العروبي لا سيما في الآونة الأخيرة.

يذكر أنّ النص من تأليف طلال لبابيدي، وتصميم الرقصات لمحمد شباط، وقد تميزت حركة الدمى بتكنيك جميل حملت حالة من الفرح والنشاط في نفوس الأطفال وردّات فعلهم، وقد قام بتحريكها كلّ من: أيهم الجيجكلي، ورندة شماس، وزينب ديب، وإيمان عمر.

ويقول المخرج بدر عن تجربته الإخراجية: هي أوّل تجربة مسرحيّة من إنتاج مديريّة المسارح، وقد كان لي تجارب إخراجية سابقة في مهرجان الشباب المسرحي مع المديرية ولكن من إنتاج شخصي … في هذه التجربة كان لدي تحدٍّ مهم لجعل مسرح العرائس مسرح عائلي وتربوي، فما أردت تحقيقه هو تفاعل الأبّ والأمّ والطفل في هذا العرض، بكامل الوقت المحدد له.

ويضيف بدر: عملت على تحويل الدمية التلفزيونيّة إلى دمية مسرحيّة يحركها شخصان، وهو إنجاز مهم بالإضافة لتقديم دمية ماريونيت (دمية بينوكيو) ضمن إمكانيات بسيطة جداً في مسرح العرائس، ولكن نجحنا رغم الصعوبة.

أمّا الفنانة مي مرهج التي جسّدت بائعة الكبريت فقالت: المسرحيّة حملت إسقاط بطريقة غير مباشرة عن الظروف وحلم كلّ طفل سوري في الداخل والخارج، فالحلم هو الأمان والعيش بعيداً عن الضوضاء، وقد حاولنا تجسيد هذا الحلم، وقدّمه المخرج بطريقة اللون والقصة بالانتقال لعوالم الطفل بين الحلم والواقع والرقص والأفعال والحوارات، وخلق الأمل وهو حالة إيجابية لنشر السلام.

البعث ميديا – عامر فؤاد عامر