اخترنا لك

من يشتري ولاءات مراكز البحث الأميركية؟

أثار التحقيق الذي نشرته مؤخراً صحيفة “نيويورك تايمز”(1) يوم الأحد الموافق (6 أيلول 2014) بشأن المنح الكبيرة المقدمة من حكومات أجنبية لبعض من أعرق مراكز الأبحاث الأمريكية (Think Tank) – قضيةً مهمةً تتعلق بنزاهة دراسات وأبحاث تلك المراكز، وما تتضمنه من توصيات للإدارة الأمريكية. وتكمن أهمية هذه القضية في الدور المؤثر لتلك المراكز في عملية صنع القرار الأمريكي الداخلي والخارجي على حد سواء، لا سيما بعد تفكك الاتحاد السوفيتي لما جلبته هذه الأحداث من فرصة لإعادة تنشيط وتطوير الأفكار، وإعادة صياغتها وتطبيقها على الساحة الدولية. وهو الأمر الذي ينال من سمعة وحيادية بعض مراكز الأبحاث المؤثرة داخل الولايات المتحدة، وكذا الاستقلالية التي تدعيها العديد من تلك المراكز المؤثرة

 

حكومات تشتري ولاءات مراكز أمريكية:

أماطت صحيفة “نيويورك تايمز” اللثام مؤخراً عن وثائق تظهر شراء حكومات لولاء معاهد ومراكز بحثية أمريكية بارزة، من أجل استغلال تأثير تلك المراكز على سياسة الولايات المتحدة تجاه تلك الدول، مشيرة إلى أن النرويج ودول الشرق الأوسط وعلى رأسها قطر والإمارات، هي الأكثر تمويلاً لتلك المراكز الأمريكية بهدف الضغط على الإدارة الأمريكية.

وبحسب تحقيق “نيويورك تايمز”، فإن أكثر من 10 مراكز بحثية بارزة في واشنطن تلقت عشرات الملايين من الدولارات من الحكومات الأجنبية في السنوات الأخيرة، فيما عملت هذه المؤسسات على دفع مسؤولي الولايات المتحدة إلى تبني سياسات غالباً ما تعكس أولويات المانحين، وتقول الصحيفة: إن الأموال الأجنبية حولت كبار مؤسسات الفكر إلى أذرع ضغط للحكومات الأجنبية على الإدارات الأمريكية، وهذا يفجر أسئلة مقلقة حول الحرية الفكرية، ويقول بعض الباحثين إنهم تعرضوا لضغوط للتوصل إلى استنتاجات تُرضي الحكومات التي تمول البحوث.

وأشار تحقيق الصحيفة إلى أن مؤسسات الفكر والرأي تتيح للحكومات المانحة اتصاﻻت خاصة مع المسؤولين الحكوميين الأمريكيين، وفي بعض الأحيان يكون ذلك بمقابل مالي. وتقول الصحيفة إن أكثر التبرعات تأتي من أوروبا والشرق الأوسط، خاصة دول الخليج العربي الغنية بالنفط، مشيرةً إلى أن “قطر” وافقت العام الماضي على تخصيص 14.8 مليون دولار، كتبرعات لمركز بروكينجز، الذي ساعد على تمويل فرع في الدوحة، ومشروع حول العلاقات الأمريكية مع العالم الإسلامي.

وبحسب الصحيفة، فإن الإمارات العربية المتحدة تمثل داعماً رئيسيّاً لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS)، حيث قدمت تبرعات تتجاوز مليون دولار لبناء مقر بالقرب من البيت الأبيض. وبحسب بعض الباحثين فإن التبرعات أدت إلى اتفاقات ضمنية بامتناع المراكز البحثية عن انتقاد الحكومات المانحة.

وتُشير الصحيفة في تحقيقها إلى أن عائلة رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، الذي اغتيل عام 2005، تُعد أحد الممولين الكبار لمركز رفيق الحريري بالمجلس الأطلنطي. وتضيف أن بهاء الدين رفيق الحريري، الابن الأكبر، متبرع سخي للمركز. وتُشير الصحيفة إلى أنه عقب الإطاحة بحكومة “الإخوان المسلمين” من السلطة في مصر، فإن هذه التبرعات كانت سبباً لخلاف مع مديرة المركز.

 

ردود فعل مراكز الفكر على الاتهامات:

وفي ردٍّ على تقرير “نيويورك تايمز”، سعت كثير من مراكز الفكر والرأي الأمريكية إلى نفي تلقي تمويل من حكومات أجنبية بما يهدد من استقلاليتها وحياديتها. ومن تلك المراكز “منتدى الشرق الأوسط” The Middle East Forum”.

فقد سارع المنتدى إلى الرد على تحقيق “نيويورك تايمز”، وأصدر على الفور بياناً صحفيّاً بعنوان “منتدى الشرق الأوسط لا يتلقى أية أموال من الحكومات الأجنبية”(2)، وجاء فيه بلا لبس “إننا لم نسعَ قط للحصول على أموال من أية حكومة أجنبية، ولا من أي ممثل لحكومة أجنبية. ولن نفعل قط”.

وذكر البيان أن قائمة المؤسسات الفكرية المخترقة لم تتضمن “منتدى الشرق الأوسط” الذي يحتفل هذا العام بمرور 20 عاماً على “تعزيز المصالح الأمريكية”. ولم يسعَ المنتدى قط أو يحصل على أي تمويل من أي حكومة أجنبية ولا أي وكيل من حكومة أجنبية. ولن يفعل ذلك أبداً مستقبلاً. وأضاف البيان أن المنتدى يعتمد على تبرعات الأفراد والعائلات والمؤسسات الأمريكية.

وختم المنتدى البيان بالقول: “إن استقلالنا يتيح لنا تقديم تحليل للقضايا الصعبة والمثيرة للجدل التي يتجنبها الآخرون؛ حيث نتساءل حول الافتراضات، ونشحذ الفكر، ونقدم الحلول الخلّاقة. ويمكن لجمهورنا، من الطلاب إلى صانعي السياسات، أن يعتمد علينا في النقد والكشف وتقديم المشورة بناء على تقييم نزيه للمصالح الأمريكية”.

وقد توالت ردود الأفعال على تحقيق “نيويورك تايمز” حيث أشار الدكتور جيمس جي. ماكجان، محاضر أول في الدراسات الدولية ومدير برنامج مراكز الأبحاث والمجتمعات المدنية في معهد لودر التابع لجامعة بنسلفانيا، في تحليل نشره “معهد أبحاث السياسة الخارجية” الأمريكي(3)، إلى أنه رغم أنه أمضى 25 سنة في إجراء البحوث على مراكز الفكر والأبحاث في كل أنحاء العالم وتقديم المشورة لها بغرض تشجيع “أفضل الممارسات” بما في ذلك سبل الحفاظ على استقلالها المالي والقانوني والفكري – إلا أن لديه مخاوف من أن يكون لتحقيق الصحيفة الأمريكية أثر ضار على مراكز الأبحاث، نظراً إلى أن هذه المراكز تلعب في الحقيقة دوراً مهمّاً في صياغة السياسة العامة. ويبدو أن الصحيفة – كما يقول ماكجان – لا تدرك ماهية مراكز الفكر، وأنها تخلط بين ممارسة الضغط السياسي وممارسة الدعاية وبين ما تقوم به مراكز الأبحاث من عمل.

وأوضح د. جيمس ماكجان، مؤسس ورئيس تحرير المؤشر العالمي الموثوق لمراكز الأبحاث (GGTTI)، أن الغالبية العظمى من مراكز الأبحاث لا تفعل أيّاً من الاثنين؛ إذ تنخرط هذه المراكزُ في أنشطة تصب في المصلحة العامة في مجالات البحوث والتعليم والإعلام والانخراط والمشورة، وذلك على النحو المحدد في الأنظمة الأساسية التي تحكم عمل المنظمات غير الربحية في الولايات المتحدة وحول العالم. والأغلبية الساحقة – بحسب ماكجان- من مراكز الفكر لديها سياسات وإجراءات معمول بها منذ زمن طويل لرصد جودة ونزاهة أبحاثها، وهي تشمل سياسات تتعلق بتضارب المصالح، وخضوع البحوث والمنشورات إلى مراجعة النظراء، وإرشادات توجيهية بشأن البحوث التي تتولى رعايتها جهات مانحة.

على النقيض من ذلك، نجد أن لوبيات الضغط السياسي ولجان العمل السياسي وجماعات المصالح الخاصة غالباً ما تخدم مصلحة خاصة، وهي هادفة إلى الربح، أو تتلقى تمويلها من مصالح خاصة ضيقة، ولا تحكمها رسالة ولا مجلس يركز على خدمة المصلحة العامة.

ومن الغرابة بمكان، يقول د. جيمس ماكجان، أن تحقيق “نيويورك تايمز” استهدف مؤسسات بحثية ذات سمعة طيبة ومستقلة وغير حزبية بدلاً من استهداف اللاعبين الأكثر إشكالاً مثل جماعات المصالح، وأعضاء لوبيات الضغط، ولجان العمل السياسي الكبرى والمانحين الناشطين. إن أهم رصيد يملكه أي مركز فكر هو سمعته. والأرجح، بحسب د. جيمس ماكجان، أن هذه المراكز لن تقامر بسمعتها ومصداقيتها بِلَيِّهَا رسالاتها لمصلحة جهة مانحة أحادية.

تجاهل تنوع الآراء :

ويرى د. جيمس ماكجان أن تحقيق “نيويورك تايمز” يتجاهل تنوع الآراء والمصالح المتنافسة التي توجد داخل مجتمع مراكز الأبحاث في الولايات المتحدة. فهل مؤسسة بروكنجز، أو مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، أو مجلس العلاقات الخارجية، أو المجلس الأطلسي، على سبيل المثال، لديها سياسة تجاه الشرق الأوسط؟ يتساءل د. جيمس ماكجان، ويجيب بقوله: قطعاً لا. فربما يؤيد باحث ما من أي من هذه المراكز مجموعة معينة من السياسات، ومن المحتمل أن يؤيد آخر من المؤسسة ذاتها مجموعة مختلفة من السياسات. قد يبدو هذا مستغرباً، لكن الباحث العادي هو في واقع الأمر مهتم بوضع سياسة تخدم مصالح البلد على أفضل ما يكون، ولا بد أن تكون لتلك السياسة جذور في الحقيقة في حدود علم هذه المراكز.

ويُضيف أن هناك ما يقرب من 1800 مركز فكر في الولايات المتحدة يعمل بها ما يزيد على 20 ألف باحث وتنفيذي كرسوا أنفسهم للتحليل المستقل للتحديات الكبرى المتعلقة بالسياسات التي تواجه البلد، وهم يفعلون هذا كل يوم لمساعدة واضعي السياسات والجمهور على اتخاذ قرارات مستنيرة حيال تشكيلة عريضة من المشكلات المتعلقة بالسياسات. بالتأكيد هناك مراكز فكر تنخرط في الترويج لرأي معين والدفاع عنه، لكن الأغلبية العظمى من مراكز الأبحاث في الولايات المتحدة ملتزمة بإنتاج بحوث قائمة على الشواهد فيما يتعلق بالسياسات.

علاوةً على ذلك، فإن هذه المراكز مثار حسد العالم، على حد وصف د. جيمس ماكجان، وهناك بلدان أخرى تحاول باستمرار أن تتعلم من التجربة الأمريكية. وأكد د. جيمس ماكجان أنه يعلم ذلك، لأنه تم مخاطبته مرات عديدة من جانب بلدان أجنبية تنشد النصح بشأن إنشاء مراكز فكر وتطويرها.

 

دور مراكز الأبحاث في السياسة الأمريكية:

ويقول د. جيمس ماكجان إن مراكز الأبحاث تؤدي دوراً فريداً من نوعه في النظام السياسي الأمريكي، والأمريكيون لهم كل الحق في الاعتزاز بتثمينهم الخبرة المستقلة. ويضيف أن نظرة على لجنة 11 أيلول تكشف عن أنها كانت مؤلفة بشكل شبه كلي من باحثين وتنفيذيين من مراكز الأبحاث الأمريكية الكبرى لا من مسؤولين حكوميين.

ويتساءل د. جيمس ماكجان: أين كنا سنصبح اليوم لولا مراكز الأبحاث من قبيل المجلس الأطلسي، ومؤسسة بروكنجز، ومركز التقدم الأمريكي، ومركز المصلحة الوطنية، ومركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، ومؤسسة هوفر للحرب والثورة والسلام، ومعهد بحوث السياسة الخارجية، ومجلس الولايات المتحدة، ومؤسسة التراث، ومؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، وصندوق مارشال الألماني، ومعهد بيترسون للاقتصاد الدولي، وغيرها الكثير من مراكز الأبحاث الأخرى التي عكفت على العمل من أجل تنوير السياسات، وبناء التحالفات، وإشراك أصدقائنا وخصومنا في الخارج؟ كل هذه المؤسسات تقيم شراكات عالمية تخدم المصلحة الوطنية الأمريكية.

ورأى د. جيمس ماكجان، أن من التضليل أن نوحي في هذا العالم المعولَم بأن وجود مصادر مالية خارجية ينبغي أن يُثير على الفور شبهات ممارسة النفوذ. ولا ننسى أنه سيكون من الجور أن نشكك في نزاهة تغطية “نيويورك تايمز” للمكسيك، لا لشيء إلا لأن السيد كارلوس سليم يملك 8% من أسهم الصحيفة، أو لأنه يتصادف نشر الإعلانات والملاحق الخاصة مدفوعة الأجر من قبل الشركات الكبرى والحكومات جنباً إلى جنب مع القصص الإخبارية الرئيسية.

لكن في مناسبة الحديث عن تضارب المصالح، يقول د. جيمس ماكجان إن بعض الخبراء والمصادر المذكورين في التحقيق لديهم تضاربات شخصية ومهنية ومؤسسية في المصالح لا يُكشف عنها في هذا التحقيق، مثل المحامين الذين قد تستفيد شركاتهم القانونية من الآثار المتوقعة للتحقيق، أو الذين تجمعهم روابط بمنظمات مصلحية التي هي نفسها لديها أجندة سياسية.

 

تمويل مراكز الفكر.. مشاكل وحلول:

تمخض تحقيق “نيويورك تايمز” عن عواقب غير مقصودة في الخارج، حيث تبنت بلدان مثل روسيا وغيرها لوائح تقيّد الدعم الخارجي للمنظمات غير الحكومية وتستشهد هذه البلدان الآن بهذا التحقيق لتبرير أفعالها، فتراها تقول: “انظروا، الكونجرس الأمريكي تنتابه ما ينتابنا من شواغل؛ لذا كُفّوا عن الضغط علينا في هذه القضية”.

وبقدر ما توجد مشكلة في تمويل مراكز الفكر، هناك حل بسيط لها. ولا شك أن الشفافية حيال التمويل جزء من هذا الحل، لكن هناك عنصراً آخر جديراً بالاهتمام. ففي يومنا هذا تقصر كثير من الجهات المانحة تمويلها على “المنح متناهية الصغر” (أو الدعم الخاص بمشروع معين تمييزاً له عن “الدعم الأساسي غير المشروط”) مما يصعّب على مراكز الأبحاث إجراء بحوث مستدامة ومبتكرة في مجال السياسات.

وأحد سبل التصدي لقضية الكيفية التي تمول بها مراكز الأبحاث هو حض الجهات المانحة كافة على تقديم الدعم الأساسي غير المشروط لمراكز الأبحاث لتمكينها من إجراء بحوث مستقلة بحق، مع ضمان جودة هذه البحوث وأمانتها في الوقت ذاته.

وفي محاولة لتوثيق وتقييم السياسات القائمة والإجراءات المعمول بها في مراكز الأبحاث في الولايات المتحدة وحول العالم، قام برنامج مراكز الأبحاث والمجتمعات المدنية في معهد لودر التابع لجامعة بنسلفانيا بتدشين “مشروع ضمان جودة ونزاهة بحوث السياسة العامة” في ربيع 2014، حيث تم، حتى هذا التاريخ، جمع السياسات والإجراءات الخاصة بما يقرب من 40 مركز أبحاث قياديّاً، وفي حين أن النتائج أولية، فإن ما هو واضح أن مراكز الأبحاث لديها آليات راسخة لعزل مؤسساتها وباحثيها عن التلاعبات التي يزعمها التحقيق المنشور في صحيفة “نيويورك تايمز”، على حد تعبير د. جيمس ماكجان.

 

الهوامش

——————————–

(1) Eric Lipton, Brooke Williams and Nicholas Confessore, Foreign Powers Buy Influence at Think Tanks, New York Times, SEPT. 6, 2014, Available at: http://www.nytimes.com/2014/09/07/us/politics/foreign-powers-buy-influence-at-think-tanks.html?_r=0 /

(2) The Middle East Forum Takes No Funds from Foreign Governments, September 9, 2014, Available at:http://www.meforum.org/4799/middle-east-forum-foreign-governments/

(3) James G. McGan, The Debate Over Foreign Funding of U.S. Think Tanks, Foreign Policy Research Institute, October 2014, Available at: http://www.fpri.org/articles/2014/10/debate-over-foreign-funding-us-think-tanks

 

البعث ميديا – المركز الوطني للأبحاث واستطلاع الرأي