ثقافة وفن

نحن وما بَعد الحداثِيَّة

منتصفَ التسعينيَّات كان لنا برنامج إذاعي في دمشق بعنوان «المعلوماتية والمجتمع» استمر حوالي عام، ولم تكن وسائل التواصل الاجتماعي المعروفة الآن موجودة بعد حينها، ولا كانت ثمة شبكة إنترنيت سورياً – ولا ربما عربياً أيضاً – بالمعنى الشَعبي، أي أن الشبكة الدولية كانت لازالت ضرباً من خيالٍ وسحر في عالم المجهول، وخصَّصْنا حلقةً من البرنامج للتعريف بهذا العالَم الجديد، ليس من الناحية التقنية، بل ومن الناحية الاجتماعية (الإنترنيت والمجتمع) استباقِياً لاستشرافِ الآثار البعيدة المحتملة والممكنة لِما هو قادم وجاءت الحلقة حبلى بمفاهيم ومصطلحات ما بعد الحداثة وما بَعد الحداثية (…. الحداثوية) في التعامل مع الشبكة، مما صار واقعاً لاحقاً وأعمق من واقع الآن. وهنا توثيق لهذه الحلقة (96) كما نُشِرتْ دورياً لاحقاً عام 1997 بعنوان «الهوية في عصر الإنترنيت» (مجلة «المعلوماتي»، دمشق، ع59، أيلول 1997، ص74 -76). [1] هنا مقتطفات من الحقل الذي يهمّنا الآن فقط، فلْنقرأ تنصيصاً وتوثيقاً:

«شيري تَرْكلْ أستاذة سوسيولوجيا العلوم في معهد «ماساشوسيْتْس» للتكنولوجيا وطبيبة نفسية مجازة في الولايات المتحدة ألَّفت في العام الماضي – 1995 – كتاباً بعنوان «الحياة على الشاشة: الهوية في عصر الإنترنيت» طُبِع ونُشِر في نيويورك بحجم 464 صفحة».

ونتابع لاحقاً: في هذا الفضاء الجديد كيف يمكن رسم الحدود الفاصلة بين الواقعي وغير الواقِعي؟… وكيف يؤثِر الخط الفاصل بين الواقعي وغير الواقعي على آرائِنا وأفكارنا حول العقل والجسم والنفس والآلة؟…. ثمة موازاة وتلازُم بين الاتجاهات الجارية في تكنولوجيا الحسابات Computing  – مِن جهة، وبين التفكير والفكر الاجتماعي ما بعد الحداثِي (أوْ ما بعد الحداثوي) –Postmodernist social thought– من جهة أخرى.

كما تُعقَد الموازنات والمقارنات التشبيهية بين محاكاة الحاسوب وممُاثَلاتِه – مِن جهة، وبين نمط تَفكير التجريد الحديث – من جهةٍ أخرى. وهذا هو ما يُشكّل النظرية المؤدِّية إلى

ما بعد الحداثة …. إن الاتجاهاتِ الجديدةَ في الحوسبة و«إجراء الحسابات» (كومبيوتينغ)* [*  وهنا الملاحظة: نُفضل استخدام تعبير «إجراء الحسابات» مقابل Computing تفريقاً عن تعبير آخر هو «الحوسبة» استخدمناه ونستخدمه عادةً مقابل Computerization] ذاتُ أهميةٍ ثقافية، على الأقل جزْئياً، إذ أنها تزوّدنا وتمدنا بموضوعات محدَّدة ملموسة يمكن مِن خلالِها فهْم النظرية ما بعد الحداثوية Postmodernist th.وتالياً تُعقَد المقارَنة بين التصورات حول الذكاء الاصطناعي مِنْ وجهة النظر الحداثوية إلى العقل باعتبارِهِ كلْكوليتِر Calculater– أي آلة معقدة مبْنية على الأوامر – من جهة، وبين التصوّرات ما بَعد الحداثوية عن الذكاء الاصطناعي باعتبارِه أيضاً آلة تستطيع التعلُّم بالاعتماد والارتكاز إلى التجربة – مِن جهةٍ أُخرى: إن النظرة ما بَعد الحداثوية تفيد من المعطيات ذات الجذور الحيوية (البيولوجية) حول الخَرْزمات الوراثية وحول الشبكات العصبونية التي يستخدمها باحثوا الذكاء الاصطناعي الحالي، والتي تصالب بين منجزات البيولوجيا (علم الحياة) والتكنولوجيا (التِقانة). إن «اللعب

على الخط بصورة تخيّلية متصاعدة ومستمرة» – بْلي أون لاين… – والصيغة التفاعلية إضافةً إلى صيَغ أُخرى منَ التفاعل في الفضاء السيبري (أو السيبراني) Cyberspace هي أساس تشكُّل تصورات نفسية وعلم نفسية (بْسيكية وبسْيكولوجية) ما بَعد حداثوية حول النفس المشتَّتة والمبعْثَرة، «النفس المجَزَّأة والمتشظِّية»Fragmented self، والتصوّرات حول «الذات غير المتمركزة – أو غير المركَّزة»Decentered subject وبالنتيجة فإن تحديد الأصالة أو الفرادة أو «الهوية الشخصية»Personal identity يمكن كما يلي: مِن جهةٍ أولى – يمكن بناء الهوية أو الفرادة في عالم حقيقي مموَّه (أو افتراضي)…. ومِن جهةٍ ثانية – تقوم التجربة الحقيقية المموَّهة (الافتراضية) بإغناء الواقع الفعلي أيضاً.

وفي الختام كان «بَيانُنا» في هذه المسألة هو التالي:

إن ظاهرة «الإنترنيت» تطرق أبواب قطرنا ووطننا العربي إجمالاً خلال السنوات القليلة القادمة وسنبدأ باختبار آثارها الدرامية المتناقضة عاجلاً أم آجلاً، بما في ذلك آثارها وعواقبها النفسية والشخصية والفكرية العقلية. إن حياة الشخص وعالمَه النفسي يتحوّلان تدريجياً إلى مجالٍ لاختبار علوم التحكُّم الآلي على مستوى عالمي، وإلى موضوع لِتجارب الأتمتة الإدارية في صيغةٍ اجتماعية – تقنية محكمة، وليس للإنسان من مفَرّ في ظروف كهذه، إذْ عليه التبصُّر والتفكير في مصيرِه الحالي والمُقْبِل! إنّ عالمَنا المعاصر والمقْبِل يميل إلى مزيد من التقريب بين الواقع والخيال، بين الحقيقة و«الوهْم»، بين برامج الحواسب والأفكار الحرّة، بين المعْطَيات الملموسة واليقينية والمعْطَيات المجرَّدة والتَخمينية، إن المطلوب مِن إنسانِنا أن يفهمَ ذاتَه في ظروف كهذه بصورةٍ أفضل، بدْءاً مِن فهم العصر والواقع العالمي الذي يعيش وسيعيش فيه؛ وعلى إنسانِنا أن يبقى على صلةٍ ومعرفةٍ بأحدث إنجازات التقدم الحضاري  كي لا تهمِّشه الحضارة الجديدة أوْ تحوّله إلى رقمٍ مهْمل في مساراتِها المعقدة المتشعّبة. انتهى.

***

في الثلث الأوَّل من عام 1998 ثمةَ ما يمكننا توثيقُه حول تجربتنا مع ما بعد الحداثوية أيضاً:

1 – مقال بعنوان «… محاذير مجتمع المعلومات وسلْبيّاتُه» (د. الكفاح العربي، بيروت، 2/2/1998، ص13)[2]. ونقتطف منه الفقرة التالية بإسهاب: إن المعلومات ليست مجرد معلومات بحتة، كما أن سيادة العلم (أو العلْمنية أو العلْموية) ليست هي مجرد هيمنة المعطيات (أو المعْطَياتية)؛ والبرنامج الغربي للعقْلنة والعلْمنة أو (العلموية) مرتبط بالتنوير القديم الكلاسيكي، ولا يجوز أن «يُغلى في مرجلٍ واحد» مع البرنامج فوق – الصناعي للمعطَياتيّة وهيمنةِ المعطَيات، أوْ مع التنوير بَعد الحداثي بتأثيراتِه المعادية للتعميمات.

2 –  مقال آخر بعنوان «بين ماكْليوين وتوفّلر» (ج. الكفاح العربي، بيروت، في 29/4/1998، ص13)[3] نقتطف منه ما يلي: هناك نقطة هامة يبدو أن «توفّلر» تأثر بها عميقاً في طروحات «ماكليوين»، وهي ذات صلة بالطروحات الأخرى إجمالاً – إنها فكرة الربط بين التوترات المرَضية ونمَط المجتمع الحديث الصِناعي«قبل القبَلي المُعاصِر» (أي مجتمع ما قبل «المجرّة الإلكترونية»، إذا فهمنا القبلية بمعناها الجديد بَعد الحداثوي هذا)، إذْ يعتبر «ماكليوين» أن الظواهر المرضية مرتبطة بالمجتمع الحديث الصِناعي قبل الإلكتروني، وربما كان تفاؤله هذا كبيراً ومضخَّماً، لأن لكل مجتمع مشكلاتِه وتوتراتِه سواءً أكان مجتمعاً صناعياً تقليدياً، أم بَعد صناعي، حداثوياً، أو «الكترونياً»، أو «تكنوْتْرونياً»، أو ما شِئت. – انتهى.

– أخيراً كان يلزم بادئ ذي بدء الإشارة العابرة إلى منشورنا الدَوري بعنوان «القيامة التكنولوجية ونهاية التاريخ» (ملحق السفير الثقافي، بيروت، ع82، في18/7/1997، ص6)

وفيه تنويعة كبرى من مسمَّيات مجتمع ما بَعد الحداثة مع استهلالٍ دالٍّ منذ السطر الأوّل، اقرأ: «كم من الصِّفات والتسميات أُغدقت على مجتمعِنا المعاصر  – المجتمع الحداثوي وبعد الحداثوي؟….»….

– هوامش من منشورات وتجربة المؤلِّف (د. معن النقري):

1 – الهوية في عصر الإنترنيت؛ مجلة المعلوماتي، دمشق، ع 59، أيلول 1997، ص74-76.

2 – … محاذير مجتمع المعلومات وسلْبياتُه؛ ج. الكفاح العربي، بيروت، 2/2/1998، ص13.

3 – بين ماكْليوين وتوفّلر؛ ج. الكفاح العربي، بيروت، في 29/4/1998، ص13.

4 – القيامة التكنولوجية ونهاية التاريخ؛ ملحق السفير الثقافي، بيروت، ع82، في 18/7/1997، ص6.

***

– كنّا ربَطنا تناظريّاً في مزدوجتين بين: «الحداثة – بعد الحداثة» و«الصناعة – بعد الصناعة» وللتنويه فإنَّ منشوراتِنا حول المزدوجة الأخيرة موجودة في عشرات المقالات في الدوريات وفي بضْعةِ كتب أيضاً، هنا بعض منها في الدوريات مما ورد صريحاً في العناوين:

1- المجتمع الصناعي وبعد الصناعي: قضايا التصنيف والفروق (مجلة الفكر العربي الفصلية، بيروت، ع88، ربيع 1997، ص250 -260).

2 – تحوُّلات دانييل بيلّ: من ما بعد الصناعة إلى المعلومات، «السفير الثقافي»، بيروت، الجمعة في 15/8/1997، ص13.

3 – من المجتمع الصناعي إلى مجتمعات ما بعد الصناعة…. ج. الكفاح العربي، بيروت، في 4/9/1997، ص13.

كان هذا من عام 1997، وهنا ما هو في العام التالي أيضاً:

4 – حول بعض أهم الموجات الفكرية المعاصرة (2) – ظاهرات مجتمع «ما بعد الصناعة»، ج. الكفاح العربي، بيروت، في 28/3/1998، ص13

5 – بريجنسكي وما بعد الرأسمالية… ج. السفير – الملحق الثقافي – السفير الثقافي، بيروت، في 17/10/1997، ص11 (تسجيل متأخِّر بسبب تأخُّر اكتشاف صدور ونَشْر المقالة).

6 – مراحل التاريخ/ من إنسان الطباعة إلى ما بعد الصناعوي… مجلة «كتابات معاصرة»، بيروت، ع35، ت1 – ت2 1998، ص131-133.

 

البعث ميديا ||