مساحة حرة

وللشهداء في عيدهم مكارم النصر

مهما قلنا من كلام وقصائد ومديح في معاني الشهادة لن نصل إلى المستوى الحقيقي للقيمة المعنوية والفكرية للشهادة ، فالشهيد هو الإنسان الذي قدم روحه خدمة لقضية غالية تتفوق في كينونتها على القيم ، فهي قضية الأرض والعرض في الحاضر والمستقبل ، وتحمل من العدالة والنبل ما يستحق التضحية لأجله حتى بالروح والجسد ، وقد أثبتت الأحداث التاريخية التي مرت على المنطقة العربية بشكل عام وعلى سورية بشكل خاص بأن تاريخ المنطقة كان سلسلة من الحروب والغزوات التي حملت الهزيمة أحياناً والانتصار في محطات عديدة، ولم تزل الدول العربية وفي مقدمتها سورية تتعرض لاستهداف دائم من قبل قوى الشر في العالم لما تمتلكه من ثروات طبيعية وموقع جغرافي يتوسط قارات العالم القديم ، لذلك كانت الغزوات والحروب على المنطقة متلاحقة ، وكانت الشهادة وسيلة الدفاع الأولى عند الإنسان العربي للتعبير عن إرادة مقاومة الاستعمار ورفض الظلم والاستغلال وتحقيق النصر على الأعداء بفضل قوة وشجاعة أبطال قواتها المسلحة وعلى رأسهم الشهداء الذين قدموا أرواحهم مكرمة للانتصار ، حيث كان شعارهم في المعركة ” الشهادة أو النصر ” حيث تمثل هذا الشعار أفضل تمثيل في حرب تشرين التحريرية ، وكانت الشهادة هي الطريق إلى النصر ، وفي الجانب النفسي لأول مرة يدخل شعار ” الشهادة أو النصر ” كعامل ردع ورعب نفوس جنود العدو ، وعامل طمأنينة للوطن والمواطن  .

لقد حملت الشهادة عند السوريين بعداً إنسانياً قبل أن تكون وسيلة للقتل ، حيث تُمثل هزيمة المعتدي انتصارا للحق والعدل ، ولم يقتصر هذا الحق ضمن الحدود الضيقة للوطن الصغير بل تعداه إلى مستوى الدفاع عن الأمة بكل مكوناتها المختلفة ، لذلك كان شهداء السادس من أيار الأبطال الذين تعطرت الأرض بدمائهم وتحدد هذا اليوم عيداً لإحياء ذكراهم هم رجال النصر من سورية و فلسطين ولبنان ، وكان أحدهم الأمير عمر حفيد الأمير عبد القادر الجزائري ، فأصبحت المناسبة بحق يوماً قومياً للشهادة والشهداء العرب .

ثم تلاحقت بعد ذلك قوافل الشهداء الذين نتذكر منهم الشهيد يوسف العظمة وزير الدفاع السوري الذي استشهد في مواجهة الحملة الفرنسية في روابي ميسلون عام 1920 ، وعلى الرغم من أن المعركة لم تكن متكافئة وكان يعرف نتيجتها سلفاً ، لكن دوافعه الوطنية وإحساسه العالي بتلبية الواجب المقدس في الدفاع عن الأرض تطلبا منه مقاومة المحتل حتى آخر نقطة دم في عروقه دفاعاً عن الوطن وترابه الطاهر ، ولكي يكون رمزاً تتعلم منه الأجيال حب الوطن والتضحية لأجله .

ونحن نعيد إحياء عيد الشهداء أكرم بني البشر في هذا اليوم العظيم لا بد لنا وأن نقف بخشوع أمام أرواح الشهداء الذين يبذلون دماءهم يومياً فداءً للكرامة الوطنية في معركة الشرف الكبرى في الدفاع عن مصير ومستقبل سورية الحديث ، المعركة التي اعترف العدو قبل الصديق بأنها من أشرس المعارك التي تتعرض لها بلد من بلدان العالم في التاريخ الحديث ، حيث يواجه فيها أبطال الجيش العربي السوري الباسل وقوى الدفاع الوطني وحلفائهم الشرفاء كل قوى الإرهاب والغدر في العالم مجتمعة تحت رعاية الولايات المتحدة الأمريكية والدول الاستعمارية الغربية ليس من اجل إسقاط الدولة السورية بكل مقوماتها الرسمية والشعبية فحسب ، بل من أجل ضرب الفكر القومي العروبي في معقله دمشق التي وصفها القائد العربي الراحل جمال عبد الناصر ” قلب العروبة النابض ” ، وكذلك من أجل إنهاء حالة الاستقلال الحقيقي والسيادة الوطنية التي تعيشها سورية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.

إن الصمود الأسطوري للشعب العربي في سورية ووقوفه بحزم خلف جيشه الوطني البطل جعل الشهادة رغبة وهدف عند جنودنا البواسل من أجل تحقيق النصر المظفر ، وقد سمعنا قصصاً عن بطولات وعن ملاحم سطرها الشهداء الأبطال في المعارك قبل استشهادهم والذي حصل نتيجة للتسابق بينهم وبين رفاقهم في المعركة لتنفيذ المهام بشجاعة وغيرية للذود عن الوطن وترابه الطاهر ، وهي قصص وحكايا سيعتز بها التاريخ السوري الحديث وسيُخلدها بشيء من التقديس ، وأما القصص الأكثر فخراً وشموخاً فهي حالة الصمود والصبر وقوة الإرادة العالية لدى أولئك الأهل الذين فرحوا بقدوم الولد وربوه ورعوه حتى أصبح شاباً ورجلاً ، وعندما احتاجه الوطن قدموه عربون انتماء ليكون المدافع الأول عن الوطن و عندما جاءهم ملفوفاً بعلم الوطن استقبلوه بالزغاريد والأهازيج الوطنية ، وكانت السيمفونية الرائعة عند جميع أسر الشهداء بأن ابنهم ذهب شهيداً فداء الوطن وهم على استعداد لتقديم الثاني والثالث والرابع وإن تطلب الأمر فالأب والأم جاهزين للشهادة فداء لسورية ، هذه الصورة المثالية في التضحية والفداء في سبيل عزة والوطن واستقلاله هي مرتكزات النصر الأساسية .

إن هذا الشعور النبيل السامي يُعبر عن وعي شعبي عالي المسؤولية تجاه حساسية المعركة المصيرية التي يتعرض لها الوطن ، وإن شعباً يمتلك هذه الإرادة وهذا التصميم على الحياة الكريمة الحرة ، لا يُمكن لقوة في العالم أن تهزمه أو تنال من استقلاله ووحدة ترابه ، ومهما جمع الأعداء من إرهابيين من كل بقاع العالم ومهما قدموا لهم من سلاح ومال وإعلام مفبرك وكاذب ، لن يستطيعوا ثنيه عن مواصلة النضال لحفظ مكانة وكرامة الأمة وهنا نؤكد من جديد بأن الشهداء الذين يسقطون في معارك اليوم في مواجهة الإرهاب الدولي العابر للحدود لا يختلفون بالمطلق عن شهداء الأمس الذين رووا بدمائهم الطاهرة تراب الوطن العربي من الشيخ عز الدين القسّام الذي خرج من مدينة جبلة ليُؤدي واجبه المقدس بالقرب من جنين في فلسطين المحتلة عام 1935 إلى الشهيد سعيد العاص الذي ثار ضد المحتل الفرنسي وكان من قادة ثورة 1936 في فلسطين حيث نال وسام الشهادة على أرضها الطاهرة  ، وإن المعركة التي تخوضها سورية اليوم هي معركة وجود العرب من المحيط إلى الخليج أو فنائهم ، لأنها لو سقطت دمشق ” لا سمح الله ” لسقط العرب جميعاً في مستنقع الاحتلال والتبعية إلى يوم يُبعثون ، ولكن سورية التي قدمت الشهداء دفاعاً عن استقلال العرب وكرامتهم في الماضي وحققت انتصارات كبيرة على المحتل ، ستنتصر اليوم على المشروع الاستعماري الجديد وستُعلن للعرب قبل غيرهم بأن الأوطان تُصان بدماء أبنائها الشرفاء ، وإن انتصار سورية اليوم سينقذ العرب والعروبة من الاندثار والضياع في حانات الحضارة الكاذبة والوهمية التي يعدهم بها الغرب الاستعماري وها هي ليبيا عنوان !

ونحن نحيي عيد الشهداء هذا العام نتقدم بتحية الفخر والاعتزاز لجيشنا الباسل وحلفائه في المعركة ونعتز بالانجازات العظيمة التي يُحققها ، ونقول لحلب الشهباء صبراً قليلاً وساعات النصر تقترب رغم كل هذه الجعجعة المخادعة ، فحلب ليست أقل أهمية من شقيقاتها على مساحة الوطن ولن يتوقف الجيش العربي السوري عن ملاحقة الإرهاب والإرهابيين حتى تحرير آخر حبة تراب من سورية كاملةً ، ونحن اليوم نؤدي القسم بأن دماء هؤلاء الأبطال الشهداء لن تذهب سدىً وإننا على طريقهم حاملون القيم النبيلة التي استشهدوا لأجلها ثائرين ومصممين على تحقيق النصر المظفر لتبقى سورية واحدة موحدة  .

 

البعث ميديا – محمد عبد الكريم مصطفى