مساحة حرة

هاون في الذاكرة المؤقتة

البعث ميديا – عامر فؤاد عامر
أصوات فرضت نفسها بقسوة على ذاكرتنا اليومية، فإزعاجها بات يذكّر الناس بأنّها موجودة ومؤذية، ونجدها في نشرات الأخبار اليومية فيرددون: سقطت اليوم قذائف الهاون في المكان الفلاني ونجمت عنها أضرارٌ ماديةٌ أو بشرية…، وما يفاجئ المشاهد للخبر المصوّر هو أنّ لها أحجام كبيرة ومتوسطة وصغيرة وكلّها محلية الصنع يتركها المسلحين بعد فرارهم من الأوكار التي يلوذون فيها.
التوثيق الخاص بقذيفة الهاون قائم في صفحات التواصل الفيسبوكية؛ توثيق للصور، وتوثيق لشهادات الناس ولكلامهم؛ ممن رأوا المشاهد أثناء مرورهم مترجلين أو وهم يقودون السيارة أو ينظرون من شبابيك البيوت، وتزداد أرقام الإعجاب أو (اللايك) كما هو متداول لهذه الصفحات؛ هل إعجاباً بهذه الظاهرة أمّ كرهاً أمّ أنّ المقصود باللايك العربي هو جمهرة الرأي حول عنوان الصفحة!؟ وبالتالي مقاومة جماعية حفاظاً على كياننا الأمني الذي تخترقه الهاون بصوتها المزعج دون استئذان.
يتصل أحدّ الأصدقاء بي أثناء ذهابه لمكان عمله في شركة دوبلاج مكانها في منطقة المزرعة ليقول: بيني وبين القذيفة مسافة قريبة، لو أنّي اقتربت بسيارتي أكثر وأنا أضعها في مكان الاصطفاف لكانت سببت لي الضرر ولكن الحمد الله نجوت منها بسبب الازدحام، ولكني رأيتها كيف خربت بسقوطها المكان وكيف مات من سقطت عليه، المشهد مزعج جداً،…هكذا كان وصفه وتعليقه في مكالمة هاتفية حملت المزيد من مشاعر الكره والتحدي في نهايتها على وجه الخصوص.
الطرقات التي بات الناس يرتادوها أكثر من قبل، لا سيما أثناء فترة ازدحام المواصلات في دمشق، تأخذ توثيقاً خاصاً بها، ففي بعض الصور التي يتعلق نظر المارّ فيها نجد شكلاً مشوِّهاً للإسفلت وانخفاض نسبي لمستوى الطريق؛ فيدرك بحزن أنّها قذيفة الهاون العشوائية التي تسقط بقصد التخريب والأذى، والمشهد يتكرر، ليكون الطريق الذي ندوسه موثقاً للفكر التخريبي فتلحظه الأبصار وتدوسه الأقدام.
نتصل بأصدقائنا في مدينة جرمانا للاطمئنان على أحوالهم، خاصّةً وأنّها استُهدفت بهذا النوع من القذائف مراراً؛ وفي بعض الفترات يومياً؛ وعلى ساعات متفرقة من اليوم ليلاً ونهاراً، فيصف لنا المشهد مثلاً: اليوم قذائف الهاون كالمطر في جرمانا، ويتابع ساخراً،  يبدو أنّ فصل الشتاء بارد هذا العام.
ليست فقط المناطق المأهولة بالسكان المدنيين والمزدحمة بالمهجرين كجرمانا هي المستهدفة بل أيضاً للمناطق الأثرية نصيب من قذيفة الهاون، فقلعة دمشق تصدّت لغباء هذه القذيفة ولأكثر من مرّة كانت جدرانها تختار التقاط الهاون لتكتفي شرّها، وللأسواق القديمة والتراثية في دمشق نصيب من هذا الأمر أيضاً.
وعلى الرغم من هذا التحدي الإرهابي المقلق تبقى حيوية المواطن السوري التي تتغذى من حكمة الأجداد وتاريخ البلد العتيق ومجده الحاضر هي التي تحيط بالمسألة، فمع مرور الزمن الحياة تستمر، وبقوة تتخلص من التشوّه الذي قدّمته قذائف الهاون.