ثقافة وفن

السينما السورية تلامس الأزمة بشفافية

ترافق الأزمات الإنسان وتثير في أعماقه نوازع فكرية وإنسانية توحي له بمنافذ ضوء يعبّر من خلالها عن متتاليات شعرية أو متواليات سردية أو رؤية بصرية تُجسد على الشاشة الكبيرة، فتعكس واقعنا وتصوّر ومضات من هول ما يحدث، وهذا ليس بغريب على السينما السورية التي تناولت قضايانا القومية والوطنية، واستمرت خلال سنوات الأزمة بدفع أكبر لتتتألق بنيلها الجوائز العالمية رغم كل محاولات استبعادها من بعض المهرجانات، وفاز فيلم “مريم ” للمخرج باسل الخطيب الذي اختزل نضال شعبنا بعدة مراحل زمنية بالجائزة الذهبية في مهرجان وهران، إضافة إلى نجاحات فيلم “صديقي الأخير” للمخرج جود سعيد الذي تناول عدة محاور أهمها محاربة الفساد، والحضور الكبير لملك الرمال الفيلم العالمي بتوقيع نجدت أنزور الذي تصدى للإرهاب، كما عُرض فيلم “الشراع والعاصفة” في حفل افتتاح مهرجان تطوان، وكُرّم المخرج غسان شميط الذي اختزل بمشهد العاصفة الصراع الدائر بين طرفي النزاع الشعب السوري والاحتلال الفرنسي، وأوحى بطريقة غير مباشرة عما يحدث الآن، إضافة إلى الأفلام القصيرة التي حظي بعضها أيضاً بجوائز عالمية مثل “البرزخ ودوران والعدّاء ونخاع” فشهدت سنوات الأزمة نهضة السينما السورية على صعيد زيادة إنتاج الأفلام الروائية الطويلة وعلى صعيد مشروع دعم الشباب لإنتاج الأفلام القصيرة ومنح فرص للكتّاب والمخرجين والممثلين والموسيقيين أيضاً، وفي جانب آخر عملت المؤسسة على عرض تظاهرات سينمائية متتابعة للتواصل بين الجمهور وأحدث إنتاجات الفنّ السابع…

 ولكن بقي الإنتاج السينمائي أقل مما يطمح إليه وبقيت الأزمة هي المحور الأساسي فبعض المخرجين جنحوا نحو المباشرة بطرحها في حين عكس آخرون تبعاتها من خلال الأبعاد الحياتية، وهناك من ابتعد عن مسارها، فاستطلعت “البعث” بعض الآراء حول الطرح المباشر للأزمة وكيفية تفعيل النشاط السينمائي وزيادة الإنتاج..

السينما ليست نشرة أخبار

بداية يرى المخرج علي شاهين الذي شارك بأعمال سينمائية وأخرج عدة أفلام تلفزيونية من أهمها فيلم “العريضة”، الذي حصل على جائزة عالمية أن السينما السورية حققت نجاحات كبيرة رغم الحرب الطاحنة التي تشهدها سورية ورغم كل التخريب والدمار النفسي فيقول: السينما ذاكرة وتاريخ لأنها تبقى خالدة ولا تُمحى من الأذهان، ولأنها ليست سلسلة أعمال درامية تلفزيونية، هي مرآة شعب تعكس واقعه بكل أبعاده وتتناول قضايانا القومية والنضالية كفيلم “مريم” الذي أبدع فيه باسل الخطيب وتعمق بتفاصيل الحرب التي تدمر الأرض والإنسان، وكذلك النجاح الذي أضافه نجدت أنزور في ملك الرمال لنقرأ تاريخ من يساند الإرهاب وقبله الشراع والعاصفة الذي نجح بإيجاد مقاربة بين نضالنا ضد الفرنسيين وما يحدث الآن، السينما صناعة وإبداع وبرأيي يجب أن تصبح مادة دراسية تضاف إلى المناهج التربوية لعمقها الاجتماعي والنوعي، أما عن ماهية الطرح فأنا ضد المباشرة البحتة لأننا لانشاهد نشرة أخبار أو تقريراً إخبارياً، جمالية الفنّ بالطرح غير المباشر وبالرسائل المبطنة الموجهة التي يتضمنها الفيلم، وتومئ بخلفية الحدث فمهمة الدراما أن تعرض النتائج وتثير ردود الفعل، نحن بحاجة إلى قصص اجتماعية مستمدة من الواقع من انعكاسات الأزمة على جميع الصعد، وأنا أثمّن ما تقوم به المؤسسة العامة للسينما ووزارة الثقافة بدعم مشروعات الشباب. أما عن تفعيل السينما وزيادة الإنتاج فبرأي شاهين أن أزمة السينما مرتبطة بالإنتاج وبوجود دور عرض والقطاع العام ليس معنياً وحده بتفعيل الحركة السينمائية ولابدّ من التعاون بين جميع الجهات فيضيف: لماذا لا تساهم جميع المحطات الفضائية بإنتاج أفلام مستقلة؟ أين دور المنظمات والوزارات ونقابة الفنانين والجمعيات الأهلية والشركات الخاصة؟ السينما صناعة وطنية وعلى الجميع أن يتصدى لدعمها.

الرقابة تقيدنا

بينما ينحو الفنان مشهور خيزران أحد أبطال فيلم الشراع والعاصفة منحى آخر ويعتقد أنه لا يكفي في السينما أن تذهب إلى الاتجاه الاجتماعي لأنه هروب من الواقع ومما نعيشه يومياً، ومن يعمل بالدراما بكل أنواعها عليه أن يتصدى للواقع، فيقول: أنا أرى أن السينما كانت بحجم المسؤولية لاسيما من خلال فيلم “الشراع والعاصفة” الذي نقل رواية حنا مينة إلى مصاف الرواية العالمية وأظهر الصراع وتاريخ سورية الحديث والثقافة السورية وتعددية الأحزاب إلى أن شكل نقطة تحوّل بتاريخ السينما السورية، ولكن السينما مرهونة بعدة محاور أولها الرقابة، وأرى أنها مازالت العائق الأساسي بوجه توسيع دائرة السينما، على سبيل المثال أنا قدمتُ سيناريو لفيلم يحاكي الأزمة بصورة مباشرة وتطرقتُ إلى الانشقاقات وعمليات الخطف وفظائع القوى الظلامية، وفي الوقت ذاته أوحيتُ بالنسيج الاجتماعي المتلاحم ومازلت أنتظر الموافقة حتى الآن مع أن مهمة من يعمل بالدراما بكل أنواعها أن يتصدى للواقع لا أن يحيد عنه، وحينما نتجاوز مشكلة الرقابة لابد أن تتعاون الجهات الخاصة وتعمل على زيادة الإنتاج، ومن جهة أخرى فأنا مع المباشرة ومع الإضاءات غير المباشرة التي تومئ بأهدافنا وقيمنا ومبادئنا مثل الفيلم الوثائقي “سلطان باشا الأطرش” بتوقيع المخرج غسان شميط قائد الثورة الذي دعا إلى الوحدة الوطنية.

نفتقر إلى دور العرض

ومن روتين الرقابة إلى نقص دور العرض التي تعدّ مشكلة حقيقية تحد من تطور السينما وفق رأي  الدكتور إسماعيل مروة الكاتب والناقد الذي شاركنا الحديث فأضاف: السينما السورية كانت دائماً تعيش مرحلة نهوض لأنها تلتزم بخطّ فكري ساعدها على نيل جوائز عالمية من أشهر المهرجانات، ولم تمنعها الأزمة من الاستمرار رغم المخاطر إذ وصلت كاميراتها إلى مواقع التصوير، وأنتجت المؤسسة العامة للسينما عدة أفلام روائية منها فيلم “مريم” الذي اختزل صمود الشعب السوري في الجولان ومقاومة قنابل الإسرائيليين إضافة إلى فيلم “صديقي الأخير” وفيلمه الجديد “بانتظار الخريف” الذي يقارب الأزمة بشكل مباشر، وفي جانب آخر أُنتجت مجموعة أفلام قصيرة مثل “رسائل الكرز” بطولة الفنان غسان مسعود وفيلم “توتر عالٍ” بتوقيع المخرج المهند كلثوم والأمثلة كثيرة، لكن مازالت السينما تعاني من إشكاليات أهمها أننا نفتقر إلى دور العرض التي تشارك بتفعيل الحركة السينمائية، فكثير من الأفلام تنتظر المهرجانات لترى النور لذلك سيكون للتعاون بين الشركات الخاصة والمؤسسة دور كبير على مستوى العرض بإيجاد صالات خاصة وعلى مستوى الإنتاج لزيادة الكم، وسنشهد انطلاقة جديدة للسينما كما حدث مع الدراما السورية التي تشغل جميع المحطات، وأرى أنه رغم كل الأوضاع الصعبة عملت المؤسسة على بثّ الروح السينمائية واستمرار التواصل بين عشاق الفنّ السابع والسينما العالمية من خلال عدة تظاهرات منها سينما حديثة بامتياز في سينما الكندي دمشق وسينما الكندي دمر.

سينما بلغة جماهيرية

ويقودنا الحديث مع بعض المشاركين بالأفلام القصيرة المتسمة بمتتاليات سردية ودرامية تنقل بعضها حالات إنسانية من الواقع وتبسط حكايات اجتماعية عكست تبعات الأزمة، في حين حاكت الأخرى الواقعية البحتة من خلال المباشرة فيضيف النجم أديب قدورة أحد أبطال فيلم “توتر عال”: أنا لستُ مع السينما المباشرة التي تنقل صورة فوتوغرافية، فالسينما بُعد فني يحمل مدى فكري جاد يقدم بأسلوب راق جداً، وفي الوقت ذاته يكون قريباً من الجمهور وبعيداً عن التعقيد الفكري لأنه لا يوجه لشريحة ما، وإنما يوجه للشريحة الكبرى ولابد من أن يخاطب جميع الطبقات بلغة مفهومة، وسيرى الجمهور في “توتر عالٍ” الإحساس المفعم بالإنسانية والوجع الذي يعيشه الناس في العشوائيات والحرمان المادي الذي يقيد الإنسان، وسيرون الحاجة إلى حرارة الحبّ بلغة جماهيرية. الممثلة سوسن ميخائيل كانت إحدى بطلات فيلم “غرفة افتراضية فوق السطح” عكست من خلال دورها معاناة المرأة نتيجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة وشاركتنا الحديث فعلقت على أهمية السينما في حياة الفنان: تمنح السينما الفنان أبعاداً إضافية يحقق من خلالها حلمه وطموحه، وأنا أتطلع لدور سينمائي يختزل خبرتي وأوظّف فيه أدواتي ورؤيتي الخاصة، ورغم نجاحات السينما السورية التي توجت بفوز فيلم “مريم” إلا أننا نتمنى زيادة الإنتاج، وبرأيي مشاركة القطاع الخاص ستكون عوناً كبيراً للمؤسسة وستفتح منافذ للتسويق والعرض كما حدث في الدراما السورية، وتضيف الممثلة الشابة علا باشا التي كانت بطلة عدة أفلام: إن الشباب يقدمون تطوراً حقيقياً بمجال الكتابة والإخراج ويطرحون أفكاراً جديدة بجرأة وشفافية تتناول مشكلات الشباب وبالتأكيد سيضيفون شيئاً مميزاً.

نحن معنيون بما يحدث

كما شاركنا الحديث المخرج الأكاديمي المهند كلثوم الذي تميز بالالتزام في القضايا القومية والوطنية، ونقل صورة واقعية عن حيثيات المجتمع فقدم عدة أفلام تسجيلية وروائية وتوثيقية لامس في بعضها تبعات الأزمة بشكل مباشر مثل “راية الشهيد”، وبشكل غير مباشر مثل “توتر عال” فيقول: دارت العجلة السينمائية بسرعة خلال السنوات الثلاث الأخيرة مقارنة مع المرحلة السابقة التي اتصفت بقلة الإنتاج نتيجة الوضع المادي لاسيما أن المؤسسة العامة للسينما محكومة بميزانية محددة، وأثبتت السينما السورية عبر أعمالها الأخيرة (الشراع والعاصفة، مريم، صديقي الأخير…) أنها مرآة لعكس الواقع سواء تطرقت بشكل مباشر إلى الأزمة أو بالاعتماد على الرمزية والمدارس البعيدة عن المباشرة، وباعتقادي إن السينما ممثلة بالمؤسسة العامة كانت دائماً سباقة لطرح القضايا القومية قبل الوطنية، وكل المخرجين الأوائل الذين حصلوا على جوائز دولية انطلقوا من المؤسسة محافظين على نهجها الهادف طيلة العقود الماضية، وحالياً طرحت ضمن أفلامها الأخيرة الأزمة من خلال رسائل مبطنة، ومن ناحية أخرى زاد عدد الأفلام الروائية الطويلة إضافة إلى مشروع دعم سينما الشباب الذي بدأ منذ ثلاث سنوات بعشرة أفلام ثم وصل الدعم إلى خمسة وعشرين فيلماً، مما يدل على الحراك السينمائي الذي اقترب من هموم المواطن وقضاياه المصيرية ولامس النسيج السوري المتكامل، وجاءت جملة الأفلام القصيرة بنمط إبداعي جديد يومئ بأمل كبير لانبعاث نهضة سينمائية رغم عدم مشاركة القطاع الخاص، ونحن كسوريين نفتخر بالسينما السورية الوطنية ونعمل لنواكب التطورات ونحن معنيون بإيصال صورة حقيقية عما يحيط بنا إلى الشاشة الكبيرة وبإيصال صوت المواطن دون أن نقع بفخ المباشرة لأن السينما ترفض المباشرة، فحن نعمل بالفنّ السابع الذي يتضمن كل الفنون لا نقدم برنامجاً للتلفزيون.

رؤية شبابية تجدد السينما

حقق مشروع دعم سينما الشباب حلم كثيرين جسدوا أفكارهم ورؤيتهم الإخراجية بأساليب متنوعة مابين التجريب والتقليد، معظمهم عكس تبعات الأزمة التي طالت حياة الناس الخاصة مثل المخرجة يارا سليمان التي قدمت فيلم “هالة والملك” المستوحى من الشدة النفسية التي تعصف بحياة الإنسان حينما يتخلى عنه الحبيب ويعيش بفراغ لا يملؤه أحد، وتؤكد في مشاركتها بحديثنا بأن السينما تشهد نهضة كبيرة من حيث زيادة الإنتاج والاهتمام بالنوعية، وأكبر دليل الأفلام الأخيرة مثل (مريم، صديقي الأخير، العاشق) وتضيف: برأيي إن المخرجين الذين بقوا في سورية وعاشوا معاناة الشعب السوري هم الأحق بتوثيق هذه المرحلة سواء بالخطوط المباشرة أم بالدلائل والرموز، ونجحوا بتوثيق الأزمة بكل أبعادها السياسية والأخلاقية بدليل أن هذه الأفلام مُنعت من المشاركة في بعض المهرجانات العالمية والعربية، وبرأيي مشاركة الشباب فرصة لرفد السينما بمواهب شابة كما حدث في الدراما التلفزيونية ونجح الشباب بحضورهم. أما المخرج سامر نصر الله الذي نال فيلمه “العدّاء” جائزة أفضل مخرج، وحصل على جائزة أفضل ممثل في مهرجان تروب فست أريبيا، يرى أن الأزمة بكل سلبياتها لها إيجابيات انعكست على دواخلنا فأصبحنا نفكر بجدية أكبر فيتابع: حاولنا كسينمائيين أن نحاكي الواقع ونبتعد عن الشاعرية والرمزية لأن ما نراه يجعلنا لا نفكر بأسلوب آخر، ولابدّ من تقديم عمل يعبّر عن واقعنا وعن محبتنا لبلدنا سورية التي تمرّ بمنعطف تاريخي، إلا إنني لا أفضل الاقتراب من الواقع، ولو أنه نوع سينمائي، برأيي نحن لا نقدم الفيلم ليقول مقولة واضحة لأنه يصبح أشبه بالإعلان، والفيلم القصير تجربة إبداعية بكل المفاهيم والمقاييس.. وتشاطره الرأي أيضاً المخرجة سارة الزير التي قدمت فيلم “أمنية عيد الميلاد” ولامست فيه الأزمة من البعد الإنساني مع إيماءات واضحة تظهر بقاء الطفلة وحيدة بعدما استشهد أهلها فتضيف: أنا لا أحب المباشرة وأبتعد عن البساطة لأن الأفلام القصيرة تتميز بالرمزية والدلالة وأرى أنه رغم كل الأوضاع الصعبة التي نعيشها، فإن الإنتاج السينمائي ازداد وكان بمثالة ردّة فعل قوية وعملنا يؤكد استمرارنا ووجودنا وتصميمنا على النصر، في حين مضت المخرجة حنان سارة نحو مسار عاطفي في فيلمها “الرحيل” وتقول: أردتُ أن أبتعد عما يحيط بنا وأقدم للناس فيلماً يكون أشبه بأنشودة محبة تخفف من معاناتهم وآلامهم، ولكن فيلمي القادم سيكون عن الأزمة.

تبيّن من جميع الآراء التي استطلعتها البعث بأن العاملين بالمجال السينمائي من نقاد ومخرجين وكتّاب وممثلين لا يميلون نحو المباشرة بالطرح، أما آراء الأشخاص العاديين الذين حضروا التظاهرات والعروض الجماهيرية للأفلام وكانوا من شرائح مختلفة جمعتهم بعض النقاط المشتركة، وتتلخص بالحاجة إلى دور عرض في أماكن متعددة مثلاً في الأسواق والمؤسسات لزيادة التواصل بين الجمهور والسينما، ولتشجيع الجهات الخاصة على التعاون مع المؤسسة لزيادة الإنتاج وعندها سيجد الإنتاج السينمائي منافذ للتسويق والعرض على الصعيد المحلي والعربي مثل أعمالنا الدرامية.

  البعث-  ملده شويكاني