اخترنا لك

أمريكا التوليتارية (2): الولايات المتحدة والعالم… إلى أين؟

مر المشروع الإمبراطوري الأمريكي منذ الحرب العالمية الثانية بثلاث مراحل:

الكاتب: محمد نجيب السعد*

ـ مرحلة الحرب البادرة حتى انهيار الاتحاد السوفييتي

انتقلت الولايات المتحدة تدريجياً من الاعتماد على بريطانيا للقيام بدور الشرطي في الوطن العربي إلى لاعب رئيسي بعد الانسحاب البريطاني شبه الكامل من المنطقة عام 1971. وتخلل هذه المرحلة تنسيق بريطاني ـ أمريكي ميداني مشترك لمواجهة ما اعتُبر تهديداً من موسكو بالتمدد إلى المنطقة، واعتمدت فيه واشنطن سياسة الاحتواء والردع، التي طرحها جورج كينان، ومارست استعراض قوتها البحرية في المتوسط عام 1946 لمواجهة الضغوط السوفييتية على تركيا، بالإضافة إلى إقامة قاعدة بحرية دائمة للأسطول الأمريكي في البحرين. وعملت على تشكيل وتشجيع الأحلاف الإقليمية، مثل حلف بغداد وبعده حلف السنتو، للوقوف بوجه الحركات التحررية، مثلاً عبد الناصر في مصر ومصدق في إيران، بتدخلها في لبنان عام 1958. ومع تغير ملامح المشروع الأمريكي في حرب فيتنام، حاول الرئيس الأسبق نيكسون إيجاد مخرج من ورطة فيتنام بتطوير مبدأه القائل بتقديم الدعم والعون العسكري إلى حلفاء الولايات المتحدة، وتوفير مظلة الحماية لهم، شرط أن يوفروا القوة البشرية اللازمة لحماية أنظمتهم. وتركز دعم نيكسون في المنطقة بالدرجة الأولى على السعودية وإيران، لصلتهما المباشرة بمخزون النفط. وشكّل الغزو السوفيتي لأفغانستان ونجاح الثورة الإيرانية محطة أساسية في تعديل عناصر المشروع الأمريكي، خاصة بعد نشوب أزمة احتجاز الرهائن الأمريكيين في السفارة الأمريكية في طهران. وأعلن الرئيس كارتر في عام 1980 مبدأً مفاده “إن أية محاولة من قبل قوة خارجية للسيطرة على منطقة الخليج ستعتبر اعتداءً على المصالح الحيوية للولايات المتحدة، وستجابه بكل الوسائل المتاحة، بما فيها القوة العسكرية”. وتم آنذاك تشكيل قوات التدخل السريع التي تحولت في ما بعد إلى القيادة الوسطى لتشمل منطقةُ عملياتها مساحة جغرافية تمتد من باكستان إلى مصر. واستطاع كارتر أن يبرم بين مصر وإسرائيل اتفاقيات كامب ديفيد. وشجعت واشنطن صدام حسين على مجابهة نية النظام الثوري الجديد في طهران للتمدد الإقليمي، فكانت الحرب العراقية – الإيرانية التي استنزفت مقدرات البلدين البشرية والاقتصادية وأضعفتهما. أعقبتها حرب تحرير الكويت التي أعتبرها البعض علامة بارزة على انحسار النفوذ السوفيتي الذي عجز عن القيام بدور في لجم الاندفاع الأمريكي، أو إيجاد مخرج للعراق يحفظ له هامشاً للمناورة، أو يثبت للاتحاد السوفيتي دوراً في حماية نفوذه مع حلفائه في الوطن العربي. في المجمل، يمكن وصف مرحلة الحرب الباردة بأنها مرحلة اعتماد المشروع الأمريكي بصورة أساسية على أدوار وظيفية مرسومة للدول الإقليمية. وفي الوقت نفسه، عززت واشنطن انتشارها العسكري عبر إقامة قواعد، والحصول على تسهيلات مختلفة على امتداد الوطن العربي، وخاصة في منطقة الخليج، وصولاً إلى تدخلها العسكري المباشر في حرب “تحرير الكويت”.

ـ مرحلة ما بعد الحرب الباردة، حتى هجمات أيلول 2001

تميزت هذه المرحلة بلجوء الولايات المتحدة في عهد الرئيس كلينتون، بصورة خاصة، إلى المزج بين نزعة التدخل العسكري واستراتيجية الاحتواء المزدوج لكل من العراق وإيران، ومواصلتها ممارسة سياسة الضغط والحصار والعقوبات والتلويح بالتدخل العسكري. وقد شهدت تلك الحقبة تدخلاً عسكرياً في الصومال (بين عامي 1992 و1994)، بالإضافة إلى توجيه ضربات جوية وصاروخية إلى العراق (في الأعوام 1993 و1996 و1998)، وإلى أفغانستان والسودان (في العام 1998). ولكن إدارة كلينتون حاولت تسويق استراتيجية تعتمد على ضمان الأمن الاقتصادي وتسخير التفوق العسكري والتقني للولايات المتحدة لخدمة هذه الاستراتيجيات.

ـ مرحلة ما بعد هجمات أيلول 2001

شكّلت هجمات 11 أيلول 2001 منصة لانعطافة جديدة في المشروع الإمبراطوري الأمريكي، وسرعة في وتيرة إنجاز مخطط المشروع الأمريكي للقرن الجديد، الذي يتمحور حول استخدام فائض القوة العسكرية والتقنية للولايات المتحدة لصوغ نظام عالمي جديد تتفرد فيه الولايات المتحدة بعرش النظام الدولي إلى أقصى مدة ممكنة، عبر التحكم في مصادر مخزونات الطاقة، والحيلولة دون تمكين أية دولة أخرى من منافسة الولايات المتحدة عسكرياً واقتصادياً. ومن اللحظة الأولى، لم تنشغل إدارة بوش الابن بالإعداد لضربة انتقامية ثأرية ضد ما اعتبرته حاضنة الإرهاب لتنظيم القاعدة في أفغانستان فقط، بل شرعت أيضاً في عملية الإعداد لغزو العراق تحت ذريعة تطويره أسلحة دمار شامل وتعامله مع تنظيم القاعدة. وساهمت هجمات أيلول في إعادة صوغ استراتيجية الأمن القومي الأمريكية لتوسع من نطاق تفسير مفهوم الدفاع عن النفس ضد الأخطار المحتملة، وصولاً إلى صوغ ما عُرف لاحقاً بـ «مبدأ بوش» الرامي إلى منح الولايات المتحدة حق شن الحروب الاستباقية على ما يمكن اعتباره خطراً قادماً محتملاً، وإن لم يكن وشيكاً أو فعلياً. ووفق ذلك، يكفي أن تُتَّهم أية دولة عاصية على طاعة الولايات المتحدة بأنها تعمل على تطوير أسلحة الدمار الشامل لتكون عرضة للغزو العسكري والتدمير وتغيير النظام. وانتشرت مقولات « من ليس معنا فهو ضدنا، ولن ننتظر حتى نهاجَم داخل أراضي الولايات المتحدة كي نتحرك، بل علينا نقل المعركة إلى أراضي الخصم». ولم تكشف الوقائع اللاحقة لغزو العراق زيف وبطلان كل الادعاءات حول تطوير العراق أسلحة دمار شامل أو امتلاكه هذه الأسلحة فقط، بل تبين أيضاً أن نائب الرئيس تشيني كان قد ناقش في اجتماع خاص مع مسؤولي شركات النفط الأمريكية خرائط ومخططات ذات صلة بالسيطرة على احتياطي النفط العراقي، وذلك قبل هجمات أيلول. إلا أن مشروع بوش تعثر مما حدى به إلى طرح بدائل سياسية في محاولة لتثبيت الهيمنة الأمريكية، مثلاً فرض تسويات منفردة للصراع العربي – الإسرائيلي، وجذب فائض العوائد النفطية للبلدان العربية إلى الاقتصاد الأمريكي، وتشجيع عمليات الخصخصة، وإحداث إصلاحات اقتصادية مغايرة لحاجات شعوب المنطقة، وتقديم المعونات السخية إلى المنظمات غير الحكومية (تحت ستار نشر ثقافة الديمقراطية والحكم الصالح الرشيد وحقوق الإنسان، وتمكين المرأة…)، واختراق الكثير من الوسائل الإعلامية العربية. ولكن إدارة بوش الابن اصطدمت بعجزها عن تقديم نظام بديل مقْنع، ولم تتمكن من إفراز نظام مستقر لا ينخره الفساد والرشوة والمحاصصة الطائفية والعرقية، عدا عن عدم القدرة على تلبية الحاجات الأساسية. ومع تعثر مشروعها وبداية تذمر حلفائها الأوروبيين والعرب معاً من حصاد المغامرة العراقية البائسة، واتهامها بأنها لا تهتم إلا بالسيطرة على مقدرات العراق النفطية، توجهت مرغمة نحو إطلاق “مبادرة الشرق الأوسط الكبير” للتغطية على فشلها وإظهار جديتها في السعي إلى إحداث تغييرات جوهرية في المسرح العربي – الإسلامي.

وجاء خطاب الرئيس بوش الابن في تشرين الثاني 2003، مؤشراً على طرح ما سمّاه “استراتيجية التقدم نحو الحرية في الشرق الأوسط”. وقال بوش أن هذه المبادرة تحاكي ما أقدمت عليه الولايات المتحدة في هلسنكي عام 1975 لتشجيع الإصلاحات الديمقراطية في أوروبا الشرقية. واعترف بوش بأن الولايات المتحدة لم تكن جادة في المضي بنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط، مشيراً إلى أن ستين عاماً من تقديم الغرب للتبريرات أو التغاضي عن غياب الديمقراطية لم تجعلنا أكثر أماناً، إذ لا يمكن في المحصلة النهائية شراء الاستقرار على حساب الحرية. هذه اللهجة الجديدة عكست اعترافاً ضمنياً بأن المبادرة التي أطلقها وزير الخارجية آنذاك كولن باول، في كانون الأول 2002، بعنوان “مبادرة الشراكة الشرق الأوسطية” لتشجيع برامج الإصلاح في البلدان العربية، لم تؤد الغرض المطلوب. ورمت المبادرة، التي طُرحت في شباط 2003، أو “مبادرة منطقة التجارة الحرة الشرق الأوسطية – الأمريكية”، إلى الإيعاز بتحقيق جملة أهداف، منها: تعزيز دور المجتمع المدني، واتخاذ مبادرات للاستثمار في مشاريع اقتصادية، وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية، وتعزيز حقوق المرأة. لكنها أيضاً عكست قناعة أيديولوجية لفريق المتشددين من المحافظين الجدد، الذين كثيراً ما روّجوا لضرورة اعتماد مبدأ تغيير الأنظمة بكل السبل الممكنة، وخاصة القوة العسكرية، للبدء بتقديم مبررات جديدة للشعب الأمريكي عقب تنامي قلقه وتشكيكه بالأهداف المعلنة للغزو الأمريكي للعراق، واعتبار نشر الحرية والديمقراطية في العالم العربي والإسلامي هدفاً حيوياً ضرورياً لتعزيز الأمن القومي الأمريكي، وأن نشر الديمقراطية في المنطقة هو الطريق الوحيد للقضاء على الإرهاب والتطرف.

إن فشل بوش في العراق وأفغانستان، وانهيار شعبيته داخلياً، دفعه إلى استخدام نغمة نشر الحرية والديمقراطية، لأنها ستكون أكثر قبولاً لدى الشعب الأمريكي. وتوظيف النهج الجديد في ممارسة التهديد والضغط على الدول العصية على الطاعة الأمريكية، والمحسوبة في معسكر المقاومة للمشروع الأمريكي، بغية تعديل سلوكها وتقديم حوافز اقتصادية وسياسية ومعنوية لها ورفع العقوبات عنها. والتجاوب الشكلي مع تطلعات الدول الأوروبية، وخاصة الدول الأطلسية التي تشارك قواتها في أفغانستان، لتشجيعها على عدم التردد في إرسال المزيد من القوات التي يحتاج المسرح الأفغاني إليها. وكان لافتاً استناد المبادرة الأمريكية في خلفياتها على خلاصة “تقرير التنمية البشرية” الصادر عن الأمم المتحدة بشأن الوطن العربي في عام 2002 – 2003. وهو التقرير الذي ركز على النواقص الثلاثة التي يشهدها الوطن العربي، حسب واضعي التقرير، وهي: المعرفة، والحرية، والحكم الرشيد، وفي تمكين النساء.

وأدركت إدارة بوش، تحت ضغوط ردود الفعل العربية والأوروبية المختلفة المطالبة بضرورة التشاور وأخذ وجهات نظرها في الاعتبار، ضرورة إجراء تعديلات على المبادرة لا تقتصر على تغيير الإسم فقط. وأدى تسريب المسودة الأولى للمبادرة إلى حراك رسمي وغير حكومي في الوطن العربي باتجاه تطوير برامج وأفكار للإصلاح تكون مطروحة قبل قمة مجموعة الثماني المنتظرة في سي آيلاند في ولاية جورجيا الأمريكية، في 2004. وكان أهم المبادرات الرسمية “بيان مسيرة التطوير والتحديث”، الذي صدر عن القمة العربية التي انعقدت في 2004، إذ دعا البيان إلى استمرار الجهود وتكثيفها لمواصلة مسيرة التطوير العربية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية، تحقيقاً لتقدم المجتمعات العربية النابع من إرادتها الحرة.

كما دعا إلى تعميق أسس الديمقراطية والشورى، وتوسيع المشاركة في المجال السياسي والشأن العام في صنع القرار، في إطار سيادة القانون، وتحقيق العدالة والمساواة بين المواطنين، واحترام حقوق الإنسان وحرية التعبير، وضمان استقلال القضاء. وبدت هذه المبادرة بتوقيتها محاولة للتأثير في ما يمكن أن يصدر عن مجموعة الثماني، ولإرسال إشارة إلى الشعوب العربية في الوقت نفسه بأن حكوماتها مهتمة بالإصلاح والتطوير بعيداً عن الإملاءات الخارجية. كما ظهرت بعض المبادرات من القطاع الأهلي مطالبة بالإصلاح، كان أهمها “إعلان صنعاء” في العام 2004، الذي تمخض عن المؤتمر الإقليمي حول الديمقراطية وحقوق الإنسان ودور المحكمة الجنائية الدولية، بالإضافة إلى “وثيقة الإسكندرية” التي صدرت عن مؤتمر “قضايا الإصلاح العربي.. الرؤية والتنفيذ” في أذار من العام نفسه. وفي ختام مؤتمر مجموعة الثماني، الذي حضره بعض زعماء العالم العربي والإسلامي (أفغانستان، الجزائر، البحرين، الأردن، تونس، تركيا، اليمن، والعراق)، تم إعلان “مبادرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الأوسع” بعد تعديل الكثير من النقاط التي وردت في المسودة المسربة قبل شهور خلت. وتمت في المؤتمر المصادقة على وثيقة “الشراكة نحو التطوير والمستقبل المشترك”، بالإضافة إلى “خطة مجموعة الثماني لدعم الإصلاح”. ومن أبرز ما تم تعديله النقاط التالية: الاعتراف بضرورة أن يكون دعم برامج الإصلاح في المنطقة يسير بالتوازي مع دعم عملية سلام عادل وشامل ودائم للصراع العربي – الإسرائيلي، والتأكيد أن الإصلاح لا يتم بفرضه من الخارج، بل يعتمد على جهود الدول نفسها – وليس بالضرورة أن يتم تغيير الحكومات القائمة لتنفيذ الإصلاح والتغيير- ولا توجد معايير واحدة لعملية الإصلاح والتغيير، ويتوجب احترام تنوع وخصوصية كل دولة، وكل دولة تقرر بنفسها الوتيرة والمدى اللذين يمكن تحقيقهما من عملية الإصلاح.

بعد مضي أكثر من عشر سنوات على إطلاق هذه المبادرة، تتبين لنا محدودية الأثر الذي تركته في تحفيز برامج الإصلاح والتغيير في الوطن العربي، وترمي إخفاقات تجربة العراق لبناء الديمقراطية، وتعثّر التجربة نفسها في أفغانستان، وعدم احترام نتائج الانتخابات التشريعية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بثقلها السلبي على المشروع الأمريكي برمته. ويبدو من التجربة العملية أن السعي إلى إقامة منطقة التجارة الحرة الأمريكية – الشرق الأوسطية هي من الأدوات الرئيسية التي تختصر مقاربات الإصلاح والتغيير للمشروع الأمريكي، بالإضافة إلى تهميش قوى المجتمع الحقيقية عبر تشجيع وتمويل بعض المنظمات غير الحكومية لعقد مؤتمرات ومنتديات حوارية، أو رعاية برامج تدريبية محلية تطاول شؤون رجال الأعمال ومؤسسات الإعلام ومنظمات المرأة، أو ترتيب الزيارات والوفود من هذه المؤسسات لحضور برامج تدريب في الولايات المتحدة. كما تتضح ماهية الأهداف الحقيقية من وراء تشجيع مختلف الأطراف على إبرام اتفاقات تجارية ثنائية، أو السعي إلى إيجاد منطقة مشتركة للتجارة الحرة مع الولايات المتحدة، فهذه الاتفاقيات لا تؤمّن دخولاً ميسّراً للبضائع الأمريكية إلى الأسواق العربية فحسب، بل إنها تكبّل أو تعطل أيضاً مفاعيل الاتفاقيات التجارية العربية – العربية عندما تتضمن شروطاً وإجراءات تنتهك الاتفاقيات المحلية المشتركة. ومثال على ذلك أنه عندما وقّع الرئيس بوش الابن اتفاقية التجارة الحرة مع المغرب، أعلن رئيس اللجنة الفرعية المختصة في الكونغرس بيل توماس أن الاتفاق ينسجم مع توصيات لجنة التحقيق في هجمات أيلول، والرامية إلى تشجيع النمو الاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط كأولوية تخدم الأمن القومي الأمريكي. وكان لافتاً أيضاً أن يعلن وزير التجارة الأمريكي، آنذاك، روبرت زوليك أن اتفاقيات التجارة الحرة هي من الوسائل الضرورية لمحاربة الإرهاب.

أوباما والمشروع الأمريكي

رغم أن أوباما لم يكن المرشح المفضّل لدى الديمقراطيين إلا أن نجاحه اللافت، في الانتخابات التمهيدية، جعله المرشح الأكثر قبولاً لتولي إدارة المشروع الإمبراطوري الأمريكي في مرحلة حرجة يتعثر فيها من الخارج، وتهتز ركائزه الاقتصادية في الداخل. إن مجيء أوباما إلى سدة الرئاسة يؤكد توق الشعب الأمريكي وحاجته الملحة إلى إحداث التغيير والقطيعة مع تركة الرئيس بوش الابن الثقيلة، إلا أن ذلك لا يعني أن في أمريكا إجماعاً حول طبيعة حجم التغيير ومداه، وإن كان هناك إجماع على ما يتسرب إلى عقول الأمريكيين وقلوبهم من حالة إحباط وفشل وقلق على المستقبل.

حاول أوباما، على ما يبدو، استعادة هيبة ومكانة الولايات المتحدة على المستوى الدولي، بدءاً بإغلاق معسكر غوانتانامو، مروراً بإعادة ترتيب العلاقات الأمريكية مع الأطراف والتكتلات الدولية الفاعلة، وانتهاءً باحتواء حالة العنف والكراهية تجاه أمريكا في العالم، ومعالجة الزلزال البنيوي الداخلي الذي أحدثته أزمة الأسواق المالية بهدف وقف التدهور، واستعادة الثقة بوضع الاقتصاد الأمريكي على طريق الإنعاش، ومواجهة تعاظم الدورين الإيراني والتركي بعيداً عن إرادة واشنطن ورغبتها. يضاف إلى ذلك ملف أيران النووي، وإمكانية تغلغل النفوذ الروسي والصيني بأساليب مختلفة إلى حلبة الشرق الأوسط.

لا تبدو إدارة أوباما مهتمة بوضع أولويات الإصلاح، ونشر الديمقراطية، أو أجندة الحرية، التي روج لها الرئيس بوش الابن كثيراً في عهده الثاني، وهو ما دفع ببعض رموز المحافظين الجدد إلى اتهام أوباما بأنه يدير ظهره لهذه الأجندة، فأوباما يُتّهم بأنه مستمر في السياسة القديمة للولايات المتحدة، والتي تفضل تكريس ميزان قوى قائم على تعزيز الاستقرار في المنطقة على حساب الحرية. ورغم إشارة أوباما، في خطابه الشهير في القاهرة، إلى قضية الديمقراطية بصورة عابرة، إلا أنها جاءت بلهجة مرنة ومطمئنة للحكومات العربية عندما ذكر :”إننا لا نريد أن تفرض دولة ما على دولة أخرى نظام حكم معيناً، أمريكا لا تفترض أنها تدرك الأصلح لكل شعب… وتدعم كل حكومة تحترم شعبها”. إن النظرة الواقعية إلى المشهد الأمريكي تدفعنا إلى عدم نسيان حقيقة أن أوباما إفراز لمؤسسة حاكمة، وأنه يمثّل فريقاً أو اتجاهاً في جناح هذه المؤسسة الليبرالي بالمقياس الأمريكي، ولا يعود لدى تسلمه الرئاسة ممثّلاً لفريق أو جناح، بل هو محكوم بتجسيد مصالح النخبة الحاكمة وطموحاتها واستمرارها. ولو دققنا قليلاً في خطب أوباما لاكتشفنا أنه يتبنّى المشروع الإمبراطوري الأمريكي ولم يتخل عنه، فهو ما يزال ينطلق من هيمنة فائض القوة العسكرية الأمريكية باعتبارها معطى ثابتاً لا يخضع للمناقشة أو المساءلة، ويعتبر أن مكمن الخلل في تعثر المشروع يعود إلى الاستخدام “الغبي” للقوة العسكرية الأمريكية من قِبَل الإدارات السابقة، وخاصة إدارة بوش الابن، ويدعو إلى ضرورة إقلاع واشنطن عن استخدام القوة الخشنة المهيمنة بصورة منفردة على المسرح الدولي لتنفيذ استراتيجيتها الدولية، ويطالب باعتماد استراتيجية القوة الذكية من خلال المزج الخلاق بين القوة الخشنة والقوة الناعمة، فكأنه يعاتب أسلافه على عدم توظيف المروحة الكاملة لعناصر القوة الأمريكية لخدمة أهداف الأمن القومي الأمريكي. ويتوجب على أمريكا، حسب وجهة نظره، أن تستخدم قوة الإذعان والإقناع معاً، ولا تنسى استخدام القوة في مجالات الاقتصاد، والدبلوماسية، والثقافة، والفنون، والإعلام… إلخ.

لذلك يبقى المعيار الحقيقي لشعار التغيير في أن يتوصل أوباما، والنخبة الحاكمة في واشنطن، إلى قناعة راسخة بأن التكلفة الباهظة لاستمرار المشروع الإمبراطوري ومخاطره تحتم الإقدام على إحداث انعطاف استراتيجي جوهري يستند إلى البدء بإدارة عملية لتنظيم التراجع، والقبول بدور رئيسي لأمريكا يكون وازناً ولكن غير مهيمن، فيؤدي إلى إعادة صوغ نظام دولي أكثر عدلاً وتوازناً. وتبدو مؤشرات العجز في تحقيق التغيير الموعود جلية، فما يزال وعده بإغلاق معسكر غوانتانامو عرضة للتأخير والتجاذب الداخلي، كما أن وعده بالانسحاب من العراق يكتنفه الغموض والتشكيك، لأن اكتفاءه بإعادة الانتشار العسكري لا يعني إرخاء القبضة الأمريكية المتحكمة بمفاصل القرار العسكري والأمني والسياسي في العراق الذي تحميه قوة عسكرية مقلّصة العدد عن الوضع الراهن، ولكنها مغطاة باتفاقيات تشرّع بقاءها، على غرار كلٍّ من المثال الألماني والياباني والكوري الجنوبي. ورغم تصريحات أوباما المتكررة بأنه لا يوجد حل عسكري في أفغانستان، نراه يندفع باطراد نحو تصعيد الحملات العسكرية، ويتردد أمام اقتراحات العسكر لزيادة عدد القوات في المسرح الأفغاني – الباكستاني، في وضعية تذكّرنا بتجربة التدخل الأمريكي في فيتنام. أما لدى تناوله قضية الصراع العربي – الإسرائيلي فنجده يقدم الرواية الإسرائيلية لأساس الصراع، معتبراً أن التنازلات الرسمية العربية التي وفرتها “المبادرة العربية” ليست سوى نقطة بداية لما يطلبه أو يفترضه من خطوات لإغراء الجانب الإسرائيلي باستئناف المفاوضات. وما تزال إدارة أوباما تسوّق لمقايضة خاوية وخادعة تقضي بتجميد جزئي ومؤقت للاستيطان (أو بوعد بتجميده) مقابل انتزاع خطوات تطبيعية من الجانب العربي واستئناف المفاوضات. ويستمر في مطالبة الأطراف العربية بتقديم المعونة له في ملفات العراق وإيران وفلسطين ولبنان… إلخ.

أما عملية الإنعاش الاقتصادي، فما تزال تراوح بين مؤشرات التفاؤل بتجاوز الأزمة وإمكانية انفجار متجدد، مصدره قطاع البطاقات الائتمانية أو سوق العقارات التجارية أو كليهما معاً. كما يبدو أن أوباما غير قادر على تحقيق التماسك والانسجام داخل فريقه للأمن القومي جراء عدة تحديات، منها استمرار الجدال الداخلي حول كيفية التعامل مع الوضع الأفغاني قائماً، وتضارب الآراء بين رموز إدارته، وعودة الصراعات الخفيّة بين الخارجية والدفاع والاستخبارات والكونجرس؛ وكلها مجتمعة تهدد أوباما بالشلل والعجز وتآكل رصيده الشعبي، كما تُظهر استطلاعات الرأي العام بشأن أدائه.

تؤشر الفترة المنصرمة من عهد الرئيس أوباما أيضاً على أن الجسم البيروقراطي الأمني العسكري، الذي ورثه عن سلفه، ما يزال، في مجمله، يتّبع السياسات والمناهج السابقة، رغم التغييرات التي طاولت بعض رموزه في القمة.

*باحث أكاديمي عراقي