مساحة حرة

الذكرى الواحدة والخمسون لثورة آذار في عهد” الثورات” الهدامة

 

إن الحديث عن ثورة آذار في عيدها الواحد والخمسين لا يخلو من الشجون والأسى لما آلت إليه منجزاتها الضخمة في عهد ” الثورات الهدامة ” المخالفة لمنطق العقل والدين والتطور الإنساني ، لكنه يحمل في الوقت ذاته روح الإصرار على استمرار النهج والسير في طريق تحقيق الأهداف رغم ما تواجهه ثورة البعث من حربٍ إلغائية على الأرض تقودها القوى الاستعمارية وأدواتها من الرجعية العربية من أجل إسقاط كل منابع الفكر القومي العروبي الذي نادت به ثورة آذار وعملت على إحيائه وانبعاثه من جديد بعد قرونٍ من الجهل والتخلف والتبعية وتمكنت من تحقيق نقلة نوعية في حياة المجتمع السوري في مرحلة تاريخية قصيرة ، ونتيجة الواقع المؤلم الذي تواجهه الدولة السورية قيادةً وشعباً ومؤسسات في حربها على الإرهاب المدعوم دولياً ، وفي ظل المتغيرات الدولية وما تبعها من أحداث كان لصمود سورية الكبير والأسطوري الأثر الواضح في تغيير الخارطة الجيوسياسية لمنطقة الشرق الأوسط والعالم ، حيث ترافق ذلك مع تحولات جوهرية في المفاهيم العامة لدى الجماهير الشعبية في الشارع العربي فبدأت بالعودة إلى رشدها بعد ما كادت أن تتنصل من انتمائها القومي العروبي نتيجة ” الفوضى الخلاقة ” ومنعكساتها التخريبية في المجتمعات العربية ، وتماشياً مع الدور المرسوم للرجعية العربية من قبل الامبريالية العالمية تنفيذاً للمشروع الصهيو – أمريكي المعد للسيطرة على المنطقة العربية بكاملها منذ الحرب العالمية الأولى ، نجد أن دويلات النفط الخليجية تستمر في غيها بعدما تحررت من انتماءاتها العربية بالمطلق وظهرت على حقيقتها بكل وقاحة كداعية وحامية للفكر الوهابي التكفيري العميل المرتبط بالاستخبارات الغربية ، مجاهِرَةً بعدائها للعرب والعروبة بكل ما للكلمة من معنى ، بل إنها قامت بحرب إعلامية واقتصادية وسياسية شرسة ضد القوى التقدمية المناهضة للمشروع الصهيوني في المنطقة مدعومة بقوة المال لتدمير مكامن القوة والمنعة عند جميع الدول العربية المعادية لإسرائيل وأمريكا ، سيما بعدما فشل المشروع الإخواني العميل المرتبط بالغرب ، كثير من الأسئلة تُطرح اليوم بقوة بعد أن أنجزت القيادة السياسية في سورية حلقات هامة في مسيرة الإصلاح السياسي والاقتصادي ، ونعني هنا الدستور الجديد الذي فاز بالقبول من أغلبية الشعب السوري ، إضافة إلى قانون الأحزاب وإلغاء قانون الطوارئ وغيرها من القرارات التي تخدم مصالح الأغلبية الواسعة من الجماهير الشعبية ، وطرح مشروع وطني متكامل مؤخراً لحل الأزمة السورية وفق أجندة سياسية واضحة مبنية على أسس مستمدة من القوانين الدولية وميثاق الأمم المتحدة ، من هذه الأسئلة : ما هي نظرة العرب عموماً والسوريين على وجه الخصوص تجاه ثورة الثامن من آذار بعد صمود ثلاثة أعوام في وجه كل محاولات القوى التكفيرية تدمير قلب العروبة النابض وتخريب ما أنجزته ثورة البعث على مدى أكثر من نصف قرن من الزمن ؟ وهل ستتمكن قيادة البعث التي استطاعت تنظيف جسدها التنظيمي من خلال إعادة تشكيل القيادات وتعيين قيادات جديدة من فرض أجندتها السياسية في المرحلة القادمة المعقدة بعد أن انتشرت المفاهيم الضيقة المتخلفة وصبغت ظاهر التغيرات السياسية والاجتماعية الجديدة ؟ أم أن صمود سورية الجيش والشعب والقيادة طيلة هذه السنوات الذي أظهر عجز المخطط الأمريكي – الصهيوني – الخليجي- التركي – الإسرائيلي عن النيل من قلب العروبة الصامد ” دمشق “، وفشله في إلغاء الدور الوطني المشرف للجيش العربي السوري الباسل هو ما سيقلب المفاهيم ويُعيد المجتمع السوري والعربي بكل مكوناته إلى جادة الصواب التي شوهتها أخبار القتل والذبح والاغتصاب والتشريد على يد “الجهاديين ” في تنظيم القاعدة والنصرة وداعش وأخواتها ؟ وهل ستتمكن الشعوب العربية من تثبيت المصالحة مع الذات والوطن والتغلب على الجراح من أجل مستقبل أفضل للأجيال ؟ و أخيراً هل ما تزال ذاكرة السوريين تختزن في داخلها انجازات ثورة آذار التي تغنَّى بها الكتاب والشعراء على الساحة العربية قبل السورية لقرابة خمسة عقود ماضية وكان من أهم نتائجها بناء سورية الحديثة التي استطاعت تحقيق كل هذا الصمود الأسطوري في وجهة معركة كونية غادرة غير مسبوقة ؟

في وقفة تاريخية محايدة عما يجري هذه الأيام يجب أن نعترف بأن ثورة آذار كانت انتفاضة شعبية صادقة ضد مظاهر الظلم والاستبداد التي كانت سائدة في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في سورية قبل الثامن من آذار عام 1963 ، وكانت الثورة عبارة عن تمرد شعبي سلمي قادته طلائع البعث لتغيير الواقع الفاسد المتخلف وتبديله بواقع جديد تسود فيه العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بإرادة الطليعة الواعية من المواطنين الذين عانوا الاضطهاد بكل ألوانه محققين بذلك النصر الكبير دون أن تسقط قطرة دم واحدة على الساحة السورية أثناء الثورة أو بعدها ، على العكس تماماً من التحركات الإرهابية التي تقوم بها الجماعات التكفيرية المجرمة ممن يُسمون أنفسهم اليوم ” ثوار” في الوقت الذي يقومون فيه بقتل وذبح وتشريد شركائهم في الوطن لمجرد الخلاف بالرأي أو بالدين ، ويقتتلون فيما بينهم على ما يُسمونها غنائم وهي مسروقات من بيوت أبناء الشعب ومؤسساته الوطنية ، ويقومون بتدمير المنشآت والمعامل والسدود ويُخربون مصادر المياه والطاقة وغيرها مما أنجزته ثورة آذار لتنمية المجتمع ورفاهيته !!
وبالعودة إلى أيام الثورة الأولى نستحضر التأييد الشعبي الواسع الذي عبرت عنه جماهير الشعب السوري الذي خرج من رقاده القسري معلناً وقوفه إلى جانب الثورة ضد النظام الإقطاعي المتخلف المرتبط عاطفياً ومصلحياً بعجلة الاستعمار المندحر بقوة وعنفوان المقاومة الوطنية الشريفة التي حققت الاستقلال الأول .

لقد تعرضت ثورة البعث في سورية خلال مسيرتها إلى معارك عديدة كان بعضها من الخصوم الأساسيين كالكيان الصهيوني وعملائه في المنطقة وخارجها ، وبعضها الآخر من داخل الحزب ذاته وكانت مفصلية و تاريخية ، تمكنت قيادة البعث الواعية أن تتغلب على جميع المعارك بفضل الاحتضان الشعبي الكبير لها من جهة ، وقدرتها في التغلب على ضيق أُفق بعض قياداتها وتصويب الموقف بشجاعة كما حدث في حركة 23 شباط عام 1966 ، و الحركة التصحيحية التي قادها القائد الخالد حافظ الأسد ، وكانت أهم إنجازاتها حرب تشرين التحريرية والانتصار العربي الأول على الكيان الصهيوني الغاصب .

قد لا نستطيع بهذه العجالة سرد إنجازات ثورة الثامن من آذار على الساحة الوطنية والعربية ، لكننا نجد بالرغم من عظمة هذه الانجازات أن حزب البعث العربي الاشتراكي مدعو اليوم أكثر من أي وقت مضى لاستنهاض همم أعضائه وتجميع قواه على الساحة الوطنية بما يكفل له دوراً قيادياً جديداً بقوة ديمقراطية الشارع السوري بعد إلغاء المادة الثامنة من الدستور التي كانت تُعطيه حق القيادة في الدولة والمجتمع واستبدالها بتشريع التعددية السياسية التي تُعطي حق القيادة لنتائج صناديق الانتخاب وفق ما هو متبع في كل بقاع العالم الديمقراطي. ونحن على قناعة أن البعث بمكوناته الفكرية وأدبياته الثقافية الغنية وحكمة قيادته ، ومن خلال استمرار البحث جدياً ضمن كوادره المؤهلة عن قيادات مخلصة تُعيد تنشيط هذا الرصيد الغني وتستطيع إثبات وجودها على الأرض بدعم جماهيرها الشعبية الوفية ، ولأن الشعب السوري يختزن في عقله وفكره الكثير من الوفاء لإنجازات البعث وثورته ، فإن المطلوب الآن إعادة ثقة الشارع بمشروع البعث الوطني والقومي من خلال سلوكيات نضالية عالية ، وهذا ما تنتظره الجماهير البعثية قبل غيرها على ساحة الوطن وإن عقد المؤتمرات الحزبية والنقابية في هذه الظروف هي تأكيد على رسوخ مسيرة البعث ، وهي رسالة للجميع أن البعث لن يتخلى عن مسؤولياته الوطنية والقومية مهما اشتدت المصاعب وتكالب الأعداء ، وإن التفاف الجماهير البعثية والشعبية خلف القائد الدكتور بشار الأسد وتأكيدها على ترشحه لولاية دستورية جديدة تلبية لطموحاتها وآمالها وتعبيراً عن إرادة المنتصر الذي يختار قيادته بإرادة حرة مستقلة .

 

محمد عبد الكريم مصطفى