ثقافة وفن

«زواج فيجارو».. تألق وتميّز لطلاب السنة الثالثة قسم التمثيل

 للضحكات والقهقات قبيل العرض وقعٌ ملفتٌ للجمهور، استصدره مخرج “زواج فيجارو” سمير عثمان الباش ليلفت بال المتلقي إلى إعلانٍ عن بداية العرض، بإيحاءٍ يدعو إلى سخرية القدر من دناءة البشر، وتحدّي هؤلاء لكلّ إشارات قوانين الحياة. ويبدأ العرض باستعراضٍ راقص يحيّي من خلاله الممثلون جمهور المسرح بحركاتٍ جميلة تدعو للفرح، والتمتع بالوقت المشترك بيننا جميعاً، إلى أنّ يحين موعد انطلاق العرض بمشاهده الأولى؛ والتي تكاد لا تنفصل مع أحداثها المعروفة كجزءٍ ثانٍ لمسرحيّة “حلاق إشبيلية” للكاتب نفسه “بورماشيه”.

جمالية العقدة هنا تنطلق من ربطٍ بسيط يدلّ على سعادة “فيجارو” باكتسابه حظوة جديدة بالقرب من “الكونت المافيفا”، والذي وبلحظة واحدة تتكشف مآربه الخبيثة من تقريبه “فيجارو” حتى في غرفة معيشته، وذلك بكلمات تحمل صدى الإنذار تنطق بها “سوزانا” مشيرة لحبيبها “فيجارو” بأنّ الكونت يهتم به ويقربه من أجواءه لأنّه يريد أنّ يحظى بها لنفسه قبل أنّ تتزوج بمن تحبّ ضمن عرف ما يسمى بحق الليلة الأولى، ومن هنا اتخذت اللعبة مسارها الواضح، فتنعطف الروايات جلّها حول هذا الفلك؛ ليتم استعراض واضح لمجتمع مؤلف من طبقات فيها من النبلاء والخدم وما بينهما؛ وليتم تقديم المزيد من الوجوه الصارخة في كذبها واستعلائها ومكائدها وكرهها لبعضها بعضاً، فلا يمكن لأحدهم أنّ يتقدم بخدمة لآخر إلا إذا كان له مصلحة ودنيئة في ذلك، وتتقاذر المصالح ليصبح السيد أسيراً لشهواته، والعبد مقيداً بأطماعه التي لن تنتهي. النصّ كلاسيكي كوميدي يتحدث عن زمن نشبت فيه مصالح سلبية تتعاظم بين طبقات المجتمع. وقدّمه “بورماشيه” كنموذج صارخ في وجه الإنسان، ليعريه من كذبه ونفاقه، وتصاعد شهواته ودناءة نفسه سبيلا للحصول على ما يبغي.

وللمخرج “سمير عثمان” إسقاطات مهمّة جاءت تلامس واقع الإنسان، فقد تمّ توصيف جوانب مهمة من الحياة يتحكم بها الكذب وعدم والوضوح في التعامل، والغايات الدونية والتحكم في مصائر آخرين، فبمجرد ذهاب المصلحة تتغير القرارات من جديد تبعاً لأهواء جديدة وأهداف خاصّة. العرض ببساطه يكشف أوراق تهمّ الإنسانية التي تنعطف في مفارق موغلة في الأنانية والكذب والسرقة والشهوة والخيانة … إلخ، ليرينا كجمهور لون البشاعة ومقدرة البشري حين يتسافل على خداع كلّ من هم حوله وأقرب الناس له لا بل خداع إنسانيته هو بالذات، وتأتي أشخاص المسرحيّة لتصور لنا هذا السياق بأوجه متعددة من “الكونت المافيفا” الغني المتسلط الشهواني وخائن “الكونتيس المافيفا” الخائنة له بدورها والمتآمرة، إلى “فيجارو” الذي يستخدم ذكائه للوصول إلى مآرب أنانيته بالالتفاف والحيل والغدر، إلى “سوزانا” شريكته في الحيلة والكذب وأيضاً “بازيل” المحابي للسلطة والقاضي الداعر و”أنطونيو” المجنون السكير و”مارسولين” المادية الفاسقة و”بارتولو” المهتم بالمظاهر والطبقية و”كيروبينو” الكائن الهلامي الشهواني إلى ما هنالك من شخصيات تجمعها الحكاية.

ساعتين وثلث من الزمن كانت مدّة العرض وعلى مدى جاوز أيّام الأسبوع بقيت الصالة تغصّ برغبة المتابعين لهذا العرض، الذي لم يفقد جوهره في جذب الناس، ويبدو أنّ الكثير من الناس رغبوا في المتابعة أكثر من مرّة.

ولم يفاجئنا المعهد العالي للفنون المسرحية بتقديمه لعرضٍ راقٍ بأداء مميز من كلّ كوادره، إذّ تكررت الحالة وبنجاح في الآونة الأخيرة، وسط تمنيات بتقديم مثل هذا العرض الجاذب “”زواج فيجارو””، في مسرح آخر من مسارح البلد ليتسنى لجميع المهتمين متابعة هذا العطاء والتعاون المهم كنموذج للتميز في مسرحنا الحالي في سورية.

ويقول “”سمير عثمان الباش”” عن العرض: “أدهشتني كثرة الحضور يوماً بعد آخر، وهذه ظاهرة صحيّة لا شكّ، وأنا معجب بما حدث، فالجمهور عنصر مهم في دعم المسرحيّة ويبدو أنّه متعطشٌ للمسرح ويريد التحليق بالتفاؤل والأمل، تبعاً لأجوائهم، والعمل يحمل كوميديا بريئة، وهو يتحدث عن الفساد الأخلاقي بأسلوب لطيف جداً ومهذب، ولا شك أنّ أهم أسباب النجاح هو العمل بجد من قبل الجميع…”.

هناك اهتمام في التفاصيل والألوان وهذا ما يجذب العين التي قد تقع فريسة الملل على مدى وقت العرض الطويل؛ إلا أنّ نجاح المخرج في رسم حالة متوازنة بين المشاهد والموسيقى ونوع الكوميديا وتسلسل الأحداث أبعد شبح الملل، ويبقى للعين التقاط تتابع القصة بشوق، ومن جهةٍ ثانيةٍ كان من الممكن أنّ تقدّم شخصية “كيروبينو” بصورة أكثر سلبية على الرغم من نجاح مؤديها، ففي وقت ما من العرض بدأ البعض يتعاطف مع الشخصية لدى وصفها بالبراءة ومحاولة إنقاذها من قرار النفي أو الاستبعاد على الرغم من سوداوية الشخصية وشبقها، ولون الخيانة الصارخ فيها. أيضاً العلاقة بين “سوزان” و”مارسولين” وكيف انتقلت من منافسة وغيرة شديدة، إلى احترام بين الحمى وكنتها، ومن دون تركيز على تحوّل هذه العلاقة، بالإضافة إلى حالة الغفران الغريبة التي قامت بها “الكونتيس المافيفا” مع زوجها الكونت والتي قُدمت كنهاية على المصالحة والوصول للحلّ السعيد، إلا أنّه -وفي الحقيقة- هي غفران مبني على باطل ومصلحة شريرة، إذّ كان من الأفضل توضيح المسألة أكثر من الشخصيات دون وقوع المشاهد في فخ أنّه الحلّ المثالي واصطلاح المجتمع، فمنطقياً لا يمكن أنّ تُصلح بمسّحة رسول والسلام، فأمام كلّ المكائد التي حاكتها شخصيات المسرحيّة أتى الحلّ هكذا وببساطة وابتسامة ساذجة من جميع الشخصيات! احتوت المسرحية على موسيقى مناسبة تماماً للزمن الذي جائت من أجله المسرحيّة، لكنّها لم تحتل مساحة كبيرة كعادتها في عروضٍ أخرى، فظهرت في موقعها كموسيقى تصويرية صغيرة جداً، في حين كان التصميم الحركي والرقصات بإشراف “يارا عيد”، وقد أتقنها الممثلون بما أمكن بل جاءت متناغمة ولطيفة ومناسبة للجو الكلاسيكي الذي يفرضه النص. وعن سلبيات العمل ذكر المخرج سمير عثمان: ” لا شكّ بأنّ لا عمل كامل، ولكن لن أتحدّث عن السلبيات إلا بيني وبين الطلاب ممثلي العرض، لكنني فخور بهم وبما قاموا به.

البعث ميديا || عامر فؤاد عامر

unnamedب