مساحة حرة

محور المقاومة يكرّس الانتفاضة الفلسطينية القادمة

تُقبل المنطقة العربية (مبدئياً) على مرحلة جديدة (وكسر عظم ورؤوس) ورحيل أنظمة ومجيء أخرى،وعلى صداقات جديدة، ورحيل إمبراطوريات عن المنطقة طالما قسّمت بلادنا ودعمت أعداءنا، وحالت دون تحقيق مشروع الأمة الحضاري في الوحدة والحرية والاشتراكية والتنمية والاستقرار والسلم، وطالما ساندت (تلك الإمبراطوريات) أنظمة فاسدة عميلة تابعة ، وحاربت دولاً عربية ذات أنظمة وطنية وعلمانية تمتلك جيوشا وطنية، وقراراتها مستوحاة من أدمغة قياداتها وليست مستوحاة أو مملاة عليها من سفارات أجنبية أو وزراء خارجية دول غربية، حيق حققت (الدول المستهدفة) تنمية مهمة وتطوراً علميا وصناعيا وزراعيا متقدما، ورفضت إقامة إتفاقات مع الكيان الصهيوني.
في هذا الظرف الدقيق، صعّدت تل ابيب من تطرّفها وقمعها للشعب العربي الفلسطيني وتدنيسها للمقدسات المسيحية والإسلامية، مستغلة الإنشغال العربي فيما أشعلت من فتن، وصنّعت من عصابات إرهابية، بعد أن شنّت خلال سنوات قليلة أكثر من حرب وحصار وبناء جدران ومصادرة أراض وتجريف مزروعات وأسر مناضلين ومناضلات،وبناء مستوطنات ورفض حتى تنفيذ ما وقعت عليه في أوسلو وسعيها لتكريس الإنقسام بين الضفة والقطاع،ومنع نشطاء عرب 1948 من التضامن مع عرب 1967…فضلا عن استخدام المال الفلسطيني وغيره لتطويع وإذلال الإرادة الفلسطينية.
لكن تل ابيب لم تنتبه أن حال الأمة الآن ليس كقبل 5 سنوات ـ أو السنة المنصرمة، وأن المشروع الإستعماري الجديد قد توقف عن التقدم في دمشق، رغم كل شيء، ولم يتمكن من إسقاط الدولة رغم مرور 55 شهراً وأن هذا المشروع الإستعماري تراجع في مصر وتونس، وتورط في مغطس اليمن الرهيب والبحرين، ولم يستطع إسقاط العراق بيد داعش، بعد تقدم سريع مفاجيء أخذ بعدها في التراجع، ولم يتمكن في ليبيا من إقامة الدولة الإخونية الوهابية، وإن كانت ليبيا تعاني كشقيقاتها من آلام مبرحة .
كما ان حليفات سورية وغيرها ليست كحالها قبل قرابة 5 سنوات، فإيران فكّت الحصار المفروض عليها،وتقدمت كثيراً على الصعد النووية والعسكرية والإقتصادية والتحالفات، وروسيا ورثت مجد الإتحاد السوفيتي بقيادة شجاعة تمكنت من استعادة مجد روسيا ومعها شبه جزيرة القرم ،ومغيّرة مع الصين ميزان القوى العالمي، ومحققتان تعددية قطبية.
والآن تضرب روسيا عميقاً العصابات الإرهابية التي تتلقى دعما لوجستياً واستخبارياً وطبياً من (إسرائيل) وتركيا وغيرهما، وباتت روسيا موضوعياً موجودة قي المنطقة العربية وليس في سورية فحسب.
نعم، فشل الفلسطينيون في الضفة الغربية من تصعيد هبتهم إلى إنتفاضة ثالثة بالتزامن مع الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة،،حيث لم تكن الظروف الموضوعية قد نضجت، كما الآن، وكانت الضغوط شديدة فأجهضت الإنتفاضة، بخاصة ان السلطة الوطنية وقتها أعلنت وقف المفاوضات مع إسرائيل، وكانت آمال مبالغ بها علقت على توجه السلطة بالدخول للمنظمات الدولية، ما ولّد شعوراً بأن التصعيد قد يعيق هذا الدخول.
أما الآن فتتضافر جملة ظروف موضوعية وذاتية لإنتفاضة ثالثة فالظرف الإقليمي والدولي أكثر من ملائم، ومحور المقاومة في حالة صعود، فيما محور النيتو التركي الرجعي الصهيوني في حالة تراجع، يزيده تعاظم الدور الروسي ضعفاً، وتورط السعودية في اليمن تأزماً، ووضع الاتفاق النووي الإيراني إسرائيل في أزمة أياً كان الموقف الذي ستتخذه، ومثله الموقف الذي ستتخذه تجاه الهبّة التي ستتحول إلى انتفاضة، بغض النظر عن مضمون هذا الموقف أيضاً، فالغرب بقيادة واشنطن ليس معنيا بالإنشغال عن الدور الروسي الجديد في المنطقة وعن التحالف الروسي الإيراني العراقي السوري الذي اتخذ من بغداد مقراً له.
وسواء أذعنت إسرائيل لإرادة الغرب للتخفيف من عنجهيتها أو لم تخفف، فإن الإنتفاضة الثالثة قادمة لا محالة، والفلسطينيون سواء كانوا في السلطة أو الحكومة المقالة قدّموا موضوعيا ما طلب منهما و”حبة مسك”، لكن الكيان الصهيوني استشعر أن حال العرب في الخريف الأمريكي باق للأبد ، فازداد تطرفاً على تطرف، محققا من (المكتسبات) الصهيونية ما لم يحققه ربما خلال عقود، الأمر الذي جعل استمرار التفاوض الفلسطيني مع الصهاينة يرتقي إلى مرتبة الخيانة ، بخاصة مع تقدم الظرف الموضوعي في الإقليم لصالح فلسطين.
الآن بلغ الحال عند الفلسطينيين (الزبى) ولم تعد لتفرق عندهم، ليس لديهم ما يخسرونه، فقد أخسرهم الصهاينة (كل شيء) إلا شعورهم بالكرامة الوطنية والإرادة وامتلاك الحق، وميزة الميزان الإقليمي والدولي المناسب.
ولا يستبعد أن تدفع أطراف فلسطينية وإقليمية ودولية متباينة المصالح والمرجعيات والسياسات، باتجاه تصعيد الإنتفاضة على خلفيات متنافرة بغرض الوصول إلى واقع جديد قد تكون لها فيه حصة، دون ان يعني ذلك وجود تنسيق أو توافق بين كل هذه الأطراف، لكن قد تكون هناك تماثلات وتنسيق بين بعضها.
يعني ذلك احتمال حدوث تغير هيكلي كبير على الصعيد الفلسطيني يبرز قيادات جديدة مؤقتة دون أن يعلن انها كذلك، وسيكون مفاجئاً (صعود بديل مقبول للغرب لم يطرح قبلا) وتتوالى حالة عدم استقرار وإفراز قيادات ليست أفضل حالاً مما هو راهن، وستطفوا على السطح علناً خلايا إرهابية كانت نائمة، سيشجّعها صنّاعها على التخريب من تحت الطاولة، كما شُجّعتْ ودعمت في سورية والعراق واليمن وليبيا ومصر وتونس.
سيكون حال الانتفاضة الفلسطينية الثالثة مختلفاً عن سابقتيْها حيث ستتّسِم بحالة (كسر عظم)، بين الفلسطينيين والإسرائيليين،وكذلك فلسطينياً لجهة إنهاء الانقسام وتداعياته، ومن حيث دخول مؤثرات إقليمية (إيجابية ) مقاوِمةٍ على الساحة الفلسطينية لم تكن موجودة سابقا بتفاصيلها.
لا بد أن الانتفاضة الفلسطينية سترهق إسرائيل أكثر من الانتفاضتين السابقتيْن، لكن تباينات اللاعبين الفلسطينيين والإقليميين والدوليين لن تتيح إنجاز نصر حاسم ناجز مستقر، الأمر الذي سيجعل مبكراً انخراط الانتفاضة في محور المقاومة متاحاً وخيارا لا بد منه، بمواجهة المحور الآخر، الذي سيجمعه حالة العداء للانتفاضة والقضية الفلسطينية والعرب ، ما يستدعي عدم الفصل بين القضية وبين عمقها العربي والدولي المقاوم، بل والتشبث به .
البعث ميديا- عمان -محمد شريف الجيوسي