مساحة حرة

الحرب في سورية.. وصناعة الشرق الأوسط الجديد

 

يُخطئ من يعتقد بأن الحرب في سورية بحلتها الجديدة وما وصلت إليه من تدخل مباشر للحلف الرباعي بهذه القوة والجدية، ستقف عند حد القضاء على داعش وأخواتها من التنظيمات الإرهابية، وأن تترك مستقبل المنطقة يتقلب تحت سعير الفوضى والتجاذبات السياسية المتباينة والمختلفة التي تحركها الدول الكبرى والدول الفاعلة في المنطقة، ولن يُسمح بعد اليوم بأن تعود الأمور إلى حالة الفوضى السياسية والأمنية التي تسببت بها رياح “الربيع العربي المتصهين” استعداداً لحروب وهجمات جديدة موجهة تحت تأثير العواطف الدينية والتحريض المذهبي، وإنّ مَن فشل في تحقيق أهدافه العدوانية تجاه سورية والمنطقة باستخدام القوة العسكرية والاستثمار في الارهاب، لن يتمكن من الحصول على أي نتائج ايجابية من خلال الحوار السياسي أو غيره من حركات اللف والدوران الخبيثة. من خلال المتابعة للواقع ومؤشراته ولطبيعة التحالف الجديد هناك دلالات لا تقبل التفسير إلا بوجه واحد ووفق استراتيجيا واحدة، وهي أن الحرب في سورية ستقود بكل تأكيد إلى خلق الشرق الأوسط الجديد الذي وعد به السيد الرئيس بشار الأسد في أحد خطاباته عندما قال: “نحن من سيُحدد شكل الشرق الأوسط الجديد..”، وهذا الأمر قد لا يقبل التاجيل بعد اليوم، بعد دخول روسيا المعركة بشكل مباشر وقد وصف تدخلها هذا السيد الرئيس بشار الأسد أنه: ” لضمان مستقبل المنطقة وامنها والحيلولة دون تدميرها بأكملها..”، وأن المعركة الحالية ستقود حتماً إلى تغيرات جيوسياسية غاية في الأهمية ليس على الساحة المحلية والإقليمية فحسب، بل كذلك على مستوى العالم بأسره، وستتغير معها الكثير من الأعراف والمفاهيم ضمن حسابات دقيقة في مقدمتها إجراء عملية تأديب فعلية لأمراء النفط وشيوخ النفط القذر الذين لعبوا دوراً أساسياً في محاولة تمرير المخطط الصهيوني الشيطاني الهادف إلى قلب أنظمة الحكم في المنطقة وإشاعة الفوضى والخراب فيها ومنعهم من محاولة الكرة ضد دول المنطقة بما يترافق مع تكتيكات قد لا تخطر ببال أحد، ومنعهم من اللعب على الوتر الطائفي من جديد وتكرار تنشيط الإسلام السياسي كخطوة أساسية في تعويم الفكر الطائفي الوهابي التكفيري لخلق حالة من الانسجام مع فكرة يهودية الدولة في فلسطين المحتلة. إن التحالف الجديد ضد الإرهاب الذي تقوده روسيا بالتعاون مع الدول الأساسية في المنطقة العراق وسورية وإيران وربما تلتحق به الصين وبعض دول البريكس، يعمل من منطلق وحدة المصالح وتطابق الأهداف لحماية السيادة الوطنية الكاملة لكل عضو في التحالف وغيرهم في المنطقة وفق مقتضيات القانون الدولي والتشريعات الدولية، وهذا يتطلب تنفيذ استراتيجية جديدة ومواقف صلبة ومنسقة في مواجهة العدو المشترك المدعوم من بعض الدول الكبرى وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الإقليمية الذين عملوا على تحقيق أهدافهم الاستبدادية عبر توظيف الإرهاب بأشكاله وألوانه المتنوعة، وأطلقوا عليه تسميات مختلفة (إرهاب معتدل، وإرهاب متشدد)، بينما في قاموس التحالف الروسي الجديد لا وجود فيه إلا للون واحد للإرهاب هو الإرهاب، من هنا سأل وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” نظيره الأمريكي عندما اتهم روسيا بأنها تضرب كل أطياف “المعارضة المسلحة المعتدلة”: أين توجد الفصائل المعتدلة؟ اعطونا إحداثياتهم حتى نتفادى ضربهم! عندها صمت “كيري” وبدت عليه علامات التجهم، لذلك ترى قيادة التحالف بأن كل من يحمل السلاح في وجه الدولة الوطنية وجيشها النظامي هو إرهابي ومجرم وسيلاقي نفس المصير الأسود مع كافة التنظيمات الإرهابية دون تمييز، وهنا تكمن الجدية العالية في مواجهة العصابات الإرهابية المجرمة العابرة للحدود اولاً، ومن ثم القيام بالخطوة اللاحقة في إعادة ترتيب الواقع الجديد للعام ضمن إطار دول التحالف والمنطقة بأكملها بما يخدم المصالح العليا لدول التحالف ولدول المنطقة ويحفظ حاضرها ومستقبلها. من المؤكد بأن إنتهاء الحرب على الإرهاب وتحقيق الانتصار الكامل عليه، ومن ثم البدء بتنفيذ هذه الرؤية الواسعة لن تكون ممكنة خلال وقت قصير، لأنه لا أحد في هذا العالم المتقلب يمتلك العصا السحرية لا دول التحالف الرباعي وشركائهم في المعركة ولا غيرهم، وإن تحقيق الخارطة السياسية الجديدة للعالم تتطلب المزيد من الحوار واللقاءات والتوافقات التي تعتبرالجهة المنتصرة مصدر التشريع فيها وهنا تُمثلها روسيا وحلفاؤها، و كل ذلك لن يحصل بين عشية وضحاها، كون المعركة متشعبة إلى حد لا يُمكن التكهن بمداها الزمني مع أنه لن يكون طويلاً حيث حدد الروس فترة الانتهاء من المعركة بعدة أشهر وليس سنوات كما توقع الأمريكان، وأمام هذه التحولات المصيرية لا يُمكن نكران صعوبة الواقع وتقلب المشهد الذي يتطلب دراسات مستفيضة وخطط غاية في الدقة، لكن الأمر المؤكد هو بأن المنطقة برمتها قادمة على تغيرات جيوسياسية تصب في مصلحة شعوبها التي ناضلت بشراسة ضد الفوضى والتخريب، سيما وأن العدو المتلطي خلف التنظيمات الإرهابية يمتلك قدرات ومؤثرات كبيرة يجب أن يُحسب لها بدقة وحساسية عالية.

محمد عبد الكريم مصطفى