مساحة حرة

من عهد التصحيح .. إلى ثمرة الصمود  

لم تكن الحركة التصحيحية المجيدة  التي قادها الرئيس الراحل حافظ الأسد في عام 1970، حركة انقلابية عادية كما يصفها بعض الكتاب والمؤرخين غير المنصفين، كما أنها لم تكن ” بيروسترويكا ” داخلية تبناها القائد لتغيير القيادات القائمة والتحول نحو بعض الإصلاحات الصغيرة كما يحصل في الكثير من الأحزاب والحركات الإصلاحية التي تنتهي باحداث انقلاب شامل في مركز القيادة الخاصة بالحزب الحاكم وتغيير طفيف في آلية العمل اليومي ، بقدر ما كانت الحركة التصحيحية المباركة عملية تغيير واسعة في استراتيجية البعث على كافة الصعد ، واعتماد منهج عمل جديد مختلف كلياً عما كان سائداً في سياسات حزب البعث العربي الاشتراكي وأعماله اليومية منذ استلامه مراكز السلطة في سورية عام 1963 من خلال ثورة الثامن من آذار التي قادها البعث لتحقيق مطالب الجماهير الكادحة ، حيث كانت ثورة نظيفة لم تُرق بها نقطة دم واحدة ، وكان وقودها آنذاك الطبقات الفقيرة من العمال والفلاحين وصغار الكسبة التواقين للتخلص من سيطرة الأنظمة الرأسمالية والاقطاعية المتخلفة والمرتبطة بعجلة الاستعمار الغربي الذي تم دحره بقوة إرادة الجماهير الشعبية التي ثارت على الاحتلال لعقود من الزمن وحصلت على استقلالها بقوة إرادتها وتصميمها.

لم يكن البعث قد أتم عقده الأول في السلطة عندما قامت الحركة التصحيحية في السادس عشر من تشرين الثاني من عام 1970 ، حيث استقرأت قيادة الحركة التي قادها الرفيق المناضل حافظ الأسد ” طيب الله ثراه ” المعاني الضيقة الكامنة خلف النهج المتبع من قبل قيادة حزبية لم تتمكن من النضج الفكري والتغلب على مراهقتها الثورية التي عززتها نشوة انتصار الثورة ووقوف الجماهير الواسعة خلفها ، كما تنبهت الى حجم الخطر الذي ينتظر الأمة فيما لو استمر الواقع بذات العقلية المتسلطة في ظل جملة من المتغيرات الكبيرة وكان أهمها انتكاسة حزيران 1967 ولا بد من إنهاء سيطرة الجمود الفكري على آداء القيادة القائمة آنذاك ، ورأت قيادة التصحيح إن هذه السياسات لا تنسجم مع متطلبات المعركة الأساسية مع العدو الحقيقي للعرب الذي احتل فلسطين وأجزاء أخرى من دول الطوق في معركة حزيران 1967 ، و كان رأي قائد الحركة التصحيحية اللواء حافظ الأسد وزير الدفاع آنذاك انه ينبغي على قيادة البعث التركيز في المرحلة القادمة للخروج من حالة التقوقع الذاتي الذي فرضته حالة التصلب الايديولوجي والتمسك بجزئيات الفكر النظري للأهداف وخاصة تجاه قضية الوحدة العربية ، وعدم القبول بأية مبادرات لتحريك القدرة الذاتية على خلق أمل جديدة لإنطلاقة وحدوية جديدة على الساحة القومية بما يخدم المعركة المصيرية مع الكيان الصهيوني الغاصب وهذا ما كانت ترفض الحديث عنه قيادة البعث السابقة في حينه ، مما أوجد المبررات الموضوعية عند الأغلبية الواعية من البعثيين لاطلاق حركة تغيير واسعة في منهج العمل التنفيذي والانتقال من مرحلة تثبيت موقع الثورة إلى القيام بعملية نهوض حقيقية في السياسات العامة وعلى كافة الصعد الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية وصولاً إلى قاعدة صلبة من البناء الوطني الشامل ، وحشد كافة الطاقات المحلية والعربية والدولية الصديقة في خدمة معركة التحريرمن الكيان الصهيوني الغاصب.

لم يمضِ الوقت الطويل حتى ظهرت بوادر التصحيح التي كان أولها حرب تشرين التحريرية التي شكلت نقلة نوعية في طبيعة ومستقبل الصراع العربي الصهيوني ، كما عكست الواقع الايجابي للتضامن العربي الذي أوجدته قيادة الحركة التصحيحة بالتعاون مع القيادات العربية المختلفة وبنت عليه خطط وأفكار لخدمة مستقبل الأمة والدفاع عن مقدراتها ، لكنه وبسبب الدور العميل لبعض القادة العرب وارتباطهم غير المباشر بالعدو ، تم إجهاض خطة التحرير الشاملة التي كانت تهدف اليها حرب تشرين ، ومع ذلك عززت ثقة المقاتل العربي بقدراته على ترويض السلاح والتعامل معه بإرادة المنتصر .

لا يستطيع المؤرخ المنصف إلا وأن يؤكد بأن ثمرة صمود سورية قيادة وشعباً وجيشاً في مواجهة حرب كونية فُرضت على سورية منذ قرابة الخمس سنوات وهي لم تزل مستمرة هي من منجزات الحركة التصحيحية التي ركزت كثيراً على بناء الجيش العربي السوري بناءاً عقائدياً صحيحاً ، وعززت مبادئ البعث والفكر القومي الذي اختزل الأفكار الضيقة الأخرى إلى أصغر مساحة ممكنة ، وإن التراخي الذي حصل في سورية مؤخراً في استمرار تطبيق نهج التصحيح في مرحلة التحولات الاقتصادية الواسعة التي دخلت بُعيد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق وتداعي الأنظمة الاشتراكية في أوربا الشرقية ، وفقدان الثقة بالفكر اليساري التنظيري ، مقابل حياة الرفاهية وإشاعة الرغبة الاستهلاكية لدى المجتمعات المحرومة من أغلب الكماليات في ظل الاقتصاد المركزي الموجه ، ومحاولة الانتقال إلى حالة السوق الحر بضغط مباشر من القوى الليبرالية التي تنفست الصعداء بعد فشل التجربة الاشتراكية ، كل هذه القضايا مجتمعة خلقت بعض الثغرات في السياسة السورية العامة نتيجة وهن القيادات في تلك المرحلة ومحاولة استقدام تجارب حزبية مختلفة وبعيدة عن تاريخ تجربتها النضالية ، كما حدث قبل  الأزمة في سورية عندما اعتمدت القيادة البعثية على تطبيق التجربة الحزبية في تونس وحل القيادات قبيل إجراء انتخابات حزبية ، حيث دخلت الأزمة وكانت القيادات المحلية في كافة المحافظات مؤقتة ومحيدة عن العمل منذ زمن .

وبفضل الإرث الحضاري والفكري التاريخي الذي تركه قائد التصحيح القائد الخالد حافظ الأسد ، وشجاعة وحكمة السيد الرئيس بشار الأسد ، تمكن البعث من تجاوز تلك المرحلة بأقل الخسائر وقام بترميم قياداته والدخول في مواجهة الحرب بكل الامكانيات والقدرات الكامنة والمكتسبة ، حيث حافظ على الدولة ومؤسساتها وخاصة مؤسسة الجيش العربي السوري الذي أثبت قدرة خارقة في الحرب ومواجهة الأعداء وتقديم العون والمساعدة لكل طبقات المجتمع السوري دون استثناء ، وهذا كله ثمرة من انجازات الحركة التصحيحية المباركة ..

محمد عبد الكريم مصطفى