هل يخسر اردوغان الدعم الأمريكي؟
من نافلة القول أن الولايات المتحدة تبحث عن مصالحها حتى لو اختلفت مع اقرب المقربين لها بما فيها تركيا العضو الهام في حلف شمال الأطلسي وقد لا تألو جهدا أيضا في إزاحة من يقف عقبة بوجه سياستها حتى من الحكام الحلفاء و لو كان حليفها التركي المقرب رجب طيب اردوغان ، فالواضح أن الإدارة الأميركية الحالية لا تترد في اتخاذ ما تراه مناسبا لنجاح سياستها وإستراتيجيتها في المنطقة، خاصة وأنها تبحث عن انجاز سياسي آخر بعد الاتفاق النووي مع إيران وهي على أعتاب الرحيل من البيت الأبيض ومن هذا المنطلق يبدو الخلاف الأمريكي التركي مرشح للتفاقم أو بالأحرى ما يجري من خلاف بين الرئيس التركي اردوغان و إدارة اوباما الذي وصل إلى حالة من التوتر الشديد لم تعهده العلاقات التركية الأمريكية منذ قيامها قبل أكثر من ستين عاما في مطلع الخمسينات من القرن الماضي.
لقد مرت العلاقات التركية الأمريكية بفترات من المد والجزر كانت تنتهي فترات الجزر منها إلى عودة النظام التركي إلى أحضان السياسة الأمريكية صاغرا أو بانقلاب عسكري لكن هذه المرة تبدو شقة الخلاف واسعة صحيح أن السلطة التركية الحالية تعتبر أنّه قد تكون هناك مصالح مشتركة بين تركيا والولايات المتحدة، غير أنهما لا تملكان هوية مشتركة ففي عام 2003، أظهرت حكومة “حزب العدالة والتنمية” المنتخبة حديثاً مؤشرات تدل على بداية مرحلة التغيّر في العلاقات الأمريكية – التركية حين رفضت السماح للقوات الأمريكية بالعبور إلى العراق عبر الأراضي التركية وفي حين كان الزعماء الأتراك السابقون يتبنون شعار مؤسس البلاد الحديث مصطفى كمال أتاتورك المنادي إلى “التقرب من الغرب”، تؤمن نخبة “حزب العدالة والتنمية” بأنّ على تركيا أن تصبح قوة إقليمية كبرى في الشرق الأوسط لا تتعاون مع واشنطن إلا عندما يكون هناك حاجة ماسة لخدمة مصالحها وباتت الوحدة الاستراتيجية خياراً “انتقائياً” أكثر فأكثر لدى تركيا ففي عام 2013 قررت حكومة “حزب العدالة والتنمية” شراء منظومات دفاع جوية صينية، مبتعدةً بذلك عن التزام تركيا التقليدي تجاه مجموعة “حلف شمال الأطلسي”.
وفي تموز عام 2010، بعد امتناع تركيا عن التصويت في الأمم المتحدة لصالح فرض عقوبات على إيران، التقى الرئيسان أوباما وأردوغان للتحدث بصراحة عن المخاوف الإقليمية وقد نتج عن ذلك التبادل قيام علاقة تعاطف بين الزعيمين وتكررت الأحاديث بينهما مع تبادل وجهات النظر حول الشرق الأوسط ولكن في صيف عام 2013 اعترض البيت الأبيض على عملية القمع العنيفة التي شنها “حزب العدالة والتنمية” على تجمعات الليبراليين في “حديقة غيزي ” وقد أدت هذه التطورات، مصحوبة بانتقاد واشنطن اللاحق لسجل انتهاك الحريات في تركيا، إلى تشويه العلاقة بين الطرفين ولكن في النهاية كانت الخلافات حادة حول سياسة الشرق الأوسط، بما في ذلك مصر – حيث ألقى أردوغان اللوم على الولايات المتحدة لتولي الرئيس عبد الفتاح السيسي الحكم – هي التي تسببت بقطع الصلة بين أوباما وأردوغان.
ومع ذلك يمكن القول أن العلاقات التركية الأمريكية لم تشهد في تاريخها فترة أسوأ من الفترة الحالية حيث خرجت الخلافات إلى السطح واستعرت حرب التصريحات النارية على أعلى المستويات بين مسؤولي البلدين وتولى رجب طيب اردوغان شخصيا تأجيج الخلاف بتصريحاته الأخيرة التي بدأها بالقول أن على إدراة اوباما أن تختار بين حكومته أو حزب العمال الكردستاني وتبعها بالقول أن السياسية الأمريكية حولت الشرق الأوسط إلى بركة دماء بدعمها الأكراد ويقصد ليس حزب العمال الكردستاني في العراق وإنما حزب الاتحاد الديمقراطي في سورية وردت الخارجية الأمريكية على الفور بأنها لا تعتبر حزب الاتحاد الديمقراطي منظمة إرهابية بما يعني إمكانية مشاركته في جلسات مؤتمر جنيف 3 القادمة وهذا ما يرعب حكومة اردوغان التي ترفض ذلك رفضا مطلقا .
والأمر اللافت أن التوترات والمشادات الكلامية وصلت إلى قمة الهرم في البلدين فبعد أن كانت الشراكة الودية والاتصالات الهاتفية المنتظمة تجمع الرئيسين باراك أوباما ورجب طيب أردوغان، بات الخلاف بينهما على الحرب السورية شديداً إلى درجة أنهما يتفاديان التواصل بانتظام أحدهما مع الآخر ولم يتوانَ أردوغان في السابع من كانون الثاني الماضي عن التعبير عن استيائه من الحرب الجوية المحدودة التي تشنها واشنطن على «داعش»، فقال: “إذا فعلتم شيئاً فافعلوه بشكل صحيح وإذا كنتم تنوون القيام به معنا، فعليكم أن تقدّروا قيمة ما نقوله ” .
الوضع مضطرب بين الطرفين التركي والأمريكي إلى حد كبير وسببه المباشر والحالي موقف واشنطن من حزب الاتحاد الديمقراطي يقول اردوغان مجددا حول الشراكة بين بلاده والولايات المتحدة في ضوء التصريحات الأمريكية بخصوص الحزب : لا افهم. أنهم (الأميركيون) يلتزمون الصمت حين نكرر أن حزب الاتحاد الديمقراطي مجموعة إرهابية يقولون لا نعتبرهم على هذا النحو غير أن هناك أسبابا أخرى متراكمة تتمثل بالدرجة الأولى في فشل حكومة اردوغان بما كانت تُطلق عليه “سياسة صفر مشاكل مع دول الجوار”، حيثُ أنّ تداعيات الربيع العربي الذي أدى إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة، كشف النقاب في الوقت نفسه عن سياسة تركيا الخارجية الطامعة في إعادة أمجاد السلطنة العثمانية المندثرة ولم يتطابق هذا بشكل كامل مع المصلحة الأمريكية فنشبت الخلافات السياسية بين أنقرة و واشنطن التي وصلت إلى مرحلة من الافتراق والتباين الواضح في الأهداف الجوهرية والأساسية، وخاصة فيما يتعلقُ بالصراع في كلٍ من سورية والعراق.
وما بين تغير الموقف الأميركي الراهن، والموقف الروسي الثابت، فإن تركيا أردوغان باتت مرتبكة، وعاجزة عن قراءة المشهد الحقيقي للوضع بالمنطقة، وبات عليها ان تواجه عواقب سياستها الفاشلة في الداخل فيما يتعلق بالتسوية السياسية للأكراد وأزمات المنطقة خاصة تدخلاتها السافرة في سورية والعراق وعلاقاتها المتوترة مع دول الجوار كلها وأخيرا الاهتزاز الكبير الذي لم يعد مستورا في العلاقة التركية الأمريكية ومن هنا يطرح السؤال الهام : إلى أي مدى يمكن أن تؤدي هذه الأهداف المتضاربة بين الولايات المتحدة وتركيا إلى تقويض الروابط الثنائية؟
بداية لابد من الإشارة إلى أن الولايات المتحدة تملك الكثير من الأوراق للمناورة والضغط على تركيا، وأنها لا تأبه إذا ما غضب النظام الحاكم في أنقرة فالمصالح الأميركية يمكن أن تختلف مع تركيا، ولكن واشنطن تدرك رغبة أنقرة في الاستمرار بعضوية حلف شمال الأطلسي، ورغبتها في أن تلحق بأوروبا، وبالتالي لن تخسر الولايات المتحدة حتى لو اتخذت مواقف سياسية لا ترضى عنها خصوصاً ما يتعلق بالموقف من الأكراد وربما يشكل هذا الموقف الأمريكي عامل ضغط على تركيا لمحاربة داعش بشكل أكبر، لان أنقرة متهمة بإمداد التنظيم بالسلاح، وهي لا تزال بعيدة عن التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد داعش، كما أن الأولويات تجاه الأزمة السورية أصبحت مختلفة بين الجانبين، وأن الأولوية لدى واشنطن باتت محاربة التنظيم الإرهابي، على عكس ما تريده الحكومة التركية.
نعود إلى السؤال السابق هل بالأفق ما يوحي بأن الإدارة الأمريكية يمكن أن تقلص من دعمها لحكومة حزب العدالة والتنمية وان تواصل دعمها لخصمه اللدود حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ؟؟ و يمكن أن يطرح السؤال بالأحرى بصيغة أخرى هل يفكر أصحاب القرار في واشنطن بالوصول إلى حد الإطاحة باردوغان إذا ما تمادى في مناكفته للسياسة الأمريكية ؟؟
لا يبدو صعبا على البيت الأبيض مثل هذا الأمر حيث جربت الولايات المتحدة تغيير النظام في تركيا أكثر من مرة عندما كان يقف بوجه سياستها وذلك عن طريق تحريك جنرالات في الجيش التركي يدينون بالولاء للسياسة الأمريكية وتاريخ الانقلابات العسكرية معروف من الانقلاب على عدنان مندريس1960 عام وحتى انقلاب الجنرالات عام 1980وفي الأزمة التركية اليونانية حول قبرص، بعث الرئيس ليندون جونسون رسالة شديدة اللهجة إلى رئيس الوزراء التركي عصمت إينونو يهدد فيها بالتخلي عن تركيا إذا ما أقدمت على استخدام القوة في الجزيرة القبرصية. وحين دخلت القوات العسكرية التركية إلى قبرص عام 1974 لحماية القبارصة الأتراك، فرضت واشنطن حظراً على توريد الأسلحة إلى أنقرة فاستتبع ذلك جموداً عميقاً في العلاقات بين الدولتين حتى عام 1981، إلا أن العلاقة بينهما استعادت عافيتها في نهاية المطاف وقد ساهم في ذلك، الانقلاب العسكري الذي حدث في تركيا عام 1980، حيث عمد الجنرالات في أعقابه إلى اعتماد سياسة وفاق مع الولايات المتحدة.
قد يكون من السابق لآوانه القول أن واشنطن ستنفض يدها كليا من حليفها رجب طيب اردوغان الذي كان مقربا جدا حتى الأمس القريب وهي تأمل بتطويعه صاغرا إلا أن غروره القاتل بعد فوز حزبه الكاسح في الانتخابات البرلمانية الأخيرة أعمى بصيرته مما جعل تطورات الخلاف مع سيده الأمريكي تتسارع وربما تؤدي إلى القطيعة إذا ما فشلت سياسة الاحتواء الأمريكية للنظام وحزب الاتحاد الديمقراطي والأكراد بوجه عام فهل يكرر التاريخ نفسه وينقلب الجيش على اردوغان ويطيح به وخاصة بعد أن احترقت أوراقه مع الروس والأمريكان وأوربا وإيران ومعظم العرب ودول الجوار كلها ؟؟
د.تركي صقر