مساحة حرة

نحو اقتصاد في خدمة الليرة

إن كانت السيولة النقدية معيار نجاحنا في معاودة الإقلاع بعجلة اقتصادنا كما نُزمع ونزعم، فعلى الأرجح لن يكون حال مشروعنا على ما يرام، وهذا ليس ضرباً من التشاؤم البغيض وغير المقبول في بدايات المهام الصعبة، بل استنتاج له نصيبه من الموضوعية في ظل السياسات -بالغة التحفظ- التي تحكم التدفقات النقدية في قنوات التداول بمختلف أشكالها وأغراضها، ولعلنا لن نختلف على دقة وواقعية القاعدة الاقتصادية الثابتة التي ترى في السيولة النقدية “وقود محركات التنمية”.
والواقع أننا نقف اليوم أمام حزمة تناقضات متأتية من صعوبة حيثيات أزمة البلاد وليس من خلل يعتري أروقة اتخاذ القرار، أو هكذا علينا أن نفترض تصالحاً مع الذات، إذ تبدو آثار السعي الواضح لإنتاج حالة من التوازن في حجم المعروض النقدي حفاظاً على القوة الشرائية لليرتنا في مقدّمة الأسباب التي أفضت إلى مشاهد تشبه الارتباك أمام الخيارات المرة.. لكن ثمة أولويات لابد من الاحتكام إليها في اتخاذ القرار، ونعتقد أننا توافقنا جميعاً على أولوية الإعمار كمبدأ عام، وإعادة تنشيط مطارح الإنتاج كأحد أهم الأهداف التي ينطوي عليها المشروع بشكلٍ عام.
من هنا لا يبدو من الحكمة تقديم أولوية تعزيز القيمة السوقية لليرة، على إلحاح إعادة إنعاش مكوّنات الاقتصاد لا سيما بمشاريعه الإنتاجية، كبيرة كانت أم متوسطة أم صغيرة أو متناهية الصغر، ويجب ألا يغيب عن ذهن أصحاب القرار الاقتصادي والنقدي أن حل مشكلة ليرتنا لا يمكن أن يكون بأدوات نقدية، بل بخيارات اقتصادية يتربع الخيار الإنتاجي والتصديري على رأس القائمة فيها، وإن بقينا نصرّ على “قلب المعادلة” نكون كمن يستمر بعلاج مريض بالعزل أي “السجن والحجب عن العالم الخارجي” بدلاً من إزالة أسباب المرض وعلاجها، وهذا حكم تعسفي أكثر مما هو علاجي يضر قطعاً ولا ينفع!!.
ولا يمكن الآن في مثل ظرفنا وخططنا التي نتحدّث عنها ووضعناها على “قاعدة الانطلاق”، أن نغرق في معادلات النقد “المعادل الإنتاجي والآخر النقدي” بعيداً عن أدبيات الاقتصاد عموماً، لأن اقتصادنا ليس اقتصاد صناديق ادخارية ومصارف وسوق استقطاب للعملات والتحويلات والرساميل بقصد الإيداع، بل نحن بلد تنوّع اقتصادي لا يجوز أن نغفل فيه عن أي من القطاعات، وإلا نحكم على أنفسنا بالدوران في حلقة مفرغة.
ربما يكون علينا أن نتفهّم أن تعزيز القوة الشرائية لليرتنا مهم لجهة مصلحة المستهلك، وهذا اعتبار يستحق أصحاب القرار الثناء بشأنه لكن يمكن – وعلى التوازي مع السماح للسيولة بالتدفق من مخابئها- إيجاد أدوات ضبط فاعلة للسوق السلعية، لأن “علاوات” التاجر القسرية ونتائج تلاعبه بالأسعار، تُشتت وتذهب بالإيجابيات التي تفترضها الحكومة من تحييد الليرة وتخبئتها في الخزائن الصماء، أي لا تعزيز حقيقياً للقوة الشرائية لليرتنا كما نتوهّم في ظل ترك حبل السوق على غاربها، بالتالي لا داعي للاستمرار في الوهم.
الآن تئن المؤسسات المصرفية تحت كتلة إيداعات هائلة تتسبب لها بخسائر كبيرة بما أنها ملزمة باستقبال الإيداعات وممنوعة بشكل شبه تام عن الإقراض وإطلاق التسليفات، ولمن يسأل فقد فشلت القروض التشغيلية فشلاً ذريعاً، لأن الواضح أنها أُقرت من قبيل “رفع العتب”، أي لتتعثّر وليس لتنجح.
أمام هذا الواقع لم يبقَ من حجج مقنعة لحجب السيولة عن السوق، وعلينا انتظار الجديد في المعالجات الحكومية في هذا الاتجاه، وليس من المتاح أن ننسى أننا أمام استحقاق تنفيذ توجيهات رفيعة المستوى بـ “تسريع دورة الاقتصاد” واتخاذ ما يلزم ذلك من إجراءات.

نـــاظـم عــيـد