اخترنا لك

معركة حلب: صراع إرادات متصاعد لا محصلة توافقات أو فرص سانحة

تزامن التقدم الكبير الذي حققه الجيش العربي السوري شمال حلب مع عدد من الأحداث المهمة: تعدد اللقاءات الروسية الأميركية والحديث عن تفاهم اللحظات الأخيرة، التغيير في النبرة التركية تجاه سوريا والحديث عن قناة تركية – سورية، وبالطبع المحاولة الانقلابية في تركيا. ليس من المستغرب أن يُفسر تزامن هذه الأحداث على أنه دليل وجود علاقة، مباشرة أو غير مباشرة، بينها وبين إنجاز قطع طريق «الكاستيلو» الحيــــوي، ولاسيما أن الحدث الأخير كان منتظراً منذ سنوات ولم يكلل بالنجاح إلا مؤخراً. بوضوح أكثر، تعتبر هذه التحليلات أن التقدم الأخير قد حصل نتيجة اتفاق الأميركيين والروس، أو لأن تركيا غيرت موقفها، أو على الأقــــل انشغلت بشؤونها الداخلية.

مشكلة هذه التحليلات تبدأ عند محاولة البناء عليها لتوقع ما سيحصل لاحقاً. في المقابل أيضاً، من غير الدقيق أن نقول إن الانقلاب في تركيا كان تماماً بلا أي تأثير على الميدان. لوضع الأمور في نصابها الصحيح قد يكون السبيل الأكثر موضوعية هو مراجعة أحداث الميدان من البداية، في حلب بدايةً ثم في إطار أوسع قليلاً.

ميدان حلب

أولاً، لم يكن التقدم الأخير في شمال مدينة حلب حدثاً بلا مقدمات أو تحضـــيرات. فحدث السيطرة على حي «بني زيد»، على سبـــيل المثال، كان محصلة تسعةٍ وأربعين يوماً من العمليات العسكرية العالية الوتيرة. بدأ الشق البري فيها بشكل واسع يوم 10 حزيران، وسبقه عمليات برية بوتيرة منخفضة في محيط «حندرات» اعتـــباراً من يوم 12 أيار. وقد سبق كل هذا عمليات قصف جوي مكثفة روسية وسورية لشمال مدينة حلب، بدأت منذ يوم 6 نيسان، واستمرت بشــــكلٍ شبه يومي، وبوتيرة متصــــاعدة وصلت في نهاية أيار إلى مئات عمليات الاستــهداف في اليوم الواحد. وهذا ما سمح «بإنضاج» الميدان للتقدم البري اللاحق. إذاً هي عملية عسكرية طويلة استمرت لقرابة أربعة أشــــهر، ولذلك قد لا يـكون من الدقيق التركيز على ما حصل فقط في النصف الأخير من تموز الماضي وخصوصاً أن قطع طريق الكاســــتيلو بالنار حصل يوم 9 تموز، قبل أسبوع على الانقلاب التركي.

ثانياً، لم يُظهر الطرف الآخر أي تهاون فيما يخص معركة حلب. فلم تكتفِ تركيا بمراقبة سماء المعركة عبر إرسال طائرة «أواكس» من طراز E-7 إلى قرب الحدود مع سوريا، علماً أن مدى رادار هذه الطائرة يصل، من تلك النقطة، إلى تخوم دمشق. بل تعرضت حملة الجيش السوري هناك لكل ما تعرضت له العمليات السابقة، من عمليات تشويش متقدمة على الاتصالات، وإرسال أرتال مؤازرة للمسلحين عبر الحدود التركية، تنقل الأفراد والسلاح الثقيل والأسلحة النوعية، ولاسيما الصواريخ المضادة للدبابات التي استخدمت بكثافة لافتة. فقد أعلن «فيلق الشام»، أحد الفصائل «الإخوانية» المقربة من تركيا، أنه نفذ في شمال حلب في يوم واحد، 20 تموز، عشر هجمات ناجحة بصواريخ «كورنيت» المضادة للدبابات، وهذا قد يكون الحصيلة اليومية الأعلى في كل الحرب السورية. هل كان يمكن أن تستمر المعركة كل تلك الأسابيع، وبوجود السيطرة الجوية، لولا سيل الامدادات النوعية من تركيا؟

ثالثاً، في وسط هذه الأحداث يجب ألا نغفل عن الدور الأميركي المتصاعد. فقد كشفت صحيفة «الغارديان»، أن آخر شحنة أسلحة بلغارية نقلتها الولايات المتحدة إلى أحد موانئ البحر الأحمر، لتكون سوريا وجهتها النهائية غالباً، كانت في 21 حزيران الماضي وبحمولة 1700 طن. وأيضاً، خلال تمشيط «حي بني زيد»، عُثر على مستودعات ذخيرة تشمل كمياتٍ كبيرةً من الأسلحة الأميركية، ولاسيما صواريخ «تاو» المضادة للدبابات. وقد كشف التصوير العالي الدقة الذي نشرته ANNA News أن الصواريخ ومنصات الإطلاق تحمل أرقاماً (DAAH01-74 C 0544) تعود لعقد خاص بالجيش الأمـــيركي، أي أن الولايات المتحدة تُقدم الصواريخ من مخزونها الخاص، بينما كانت المعلومات السابقة تقول إن أطرافاً إقليمية أخرى هي من يقدم الصواريخ من مخزونها بإشراف أميركي. تظهر أرقام أخرى أن الجيش الأميركي قد قام بإجراء صيانة لمنصات إطلاق «التاو» الصيف الماضي، أي أن المنصات نقلت إلى سوريا بعد ذلك، غالباً بُعيد التدخل الروسي.

رابعاً، لا يوجد أي مؤشر على أن من خطط للهجوم الأخير في شمال حلب قد استند إلى أي تقديرات متفائلة حول حيادية الخصوم. بل توجد مؤشرات على حصول العكس تماماً. فبالإضافة إلى القصف الجوي العنيف، واستهداف أرتال المسلحين بمجرد عبورها الحدود التركية، أظهرت صور فضائية ملتقطة في 24 أيار الماضي، أي بعد أكثر من شهر ونصف على انطلاق الحملة، نشر ثلاث منصات على الأقل من صواريخ الدفاع الجوي البعيدة المدى إس-200 شمال مطار «كويرس»، على بعد لا يزيد عن 50 كيلومتراً عن الحدود التركية، علماً أن نشر هذه الصواريخ في هذا الموقع يمنحها مدى يزيد على مئة كيلومتر داخل المجال الجوي التركي. هل يمكن تفسير تزامن نشر هذه المنظومة، في هذا الموقع، على أنـــه جزء من تدابير ردعية للأتراك، أو سواهم، في حال قرروا التدخل جواً بشكل أو بآخر؟ ربما.

خامساً، بات من الواضح أن الفصائل الرئيسية في حلب الشرقية، وبعد فترة قصيرة جداً من التخبط كانت تواجه فيها خطر الانهيار الكامل، قد تلقت أوامر بالتحرك لإفشال عمليات خروج المدنيين من المعابر الإنسانية والعمل على تحويل ما يحصل في حلب إلى حدث إعلامي وسياسي كبير يهدف إلى منع تحول التقدم الميداني العسكري إلى رصيد سياسي. وحتى على الصعيد العسكري أظهر الهجوم الكبير للمسلحين في غرب حلب، والذي تشارك فيه بقوة «جبهة النصرة» باسمها الجديد «جبهة فتح الشام»، أن هناك ضغوطاً إقليمية ودولية لتفريغ الانتصار العسكري في شمال حلب من مضمونه عبر فتح معبر نحو حلب الشرقية من الراموسة. كما أن انتقال المهاجمين إلى المرحلة الثالثة من هجومهم، ومهاجمة الراموسة، قبل اكتمال المرحلة الثانية بالسيطرة على كلية المدفعية، إضافة إلى مؤشرات أخرى، يمكن أن تفسر أيضاً بوجود ضغوط خارجية لتحقيق أكبر رد عسكري على التقدم السوري-الروسي وهذا ما ينفي حصول تفاهم روسي-أميركي أو روسي-تركي. المشاركة الكبيرة لـ «جبهة النصرة» في الهجمات المضادة، بعد أيام فقط على فك الارتباط بـ «القاعدة»، والأنباء حول عرقلة الأميركيين لاستهداف زعيم «النصرة» في القلمون، أبو مالك التلي، تشير إلى استمرار التعويل على دور مهم لـ «جبهة النصرة» وإلى عدم حصول أي تفاهم روسي أميركي على استهداف «جبهة النصرة» مقابل مسارعة خطى الحل السياسي.

الميدان العالمي

برغم كل تجاربهم السيئة مع إدارة أوباما، يدرك الروس أن أوباما قد يكون الوحيد في واشنطن الراغب بالتوصل إلى تفاهم مع روسيا لحل الأزمة السورية بعدما بات واضحاً أن ضلعي مثلث القرار الآخرين في واشنطن، البنتاغون وأجهزة المخابرات، ترفض أي تعاون مع روسيا وتظــــهر عداءً متزايداً لها. ليس الأميركيون وحدهم من يظهر هذا العداء، وهذا العداء لا يظهر في سوريا فقط. ففــــي الأول من آب الجاري انتهت مناورات «الزئير القطبي»، التي نفذها سلاح الجو الأميركي بالتعاون مع قوى أطلسية، وشملت انطلاق قاذفات استراتـــيجية من الولايات المتحدة والتحليق لآلاف الكيـــلومترات حول القطب الشمالي وبحر البلطيق، وعلى بعد عشرات الكيلومترات فقط من القواعد العسكرية الروسية الجديدة هناك. وفي الشهر السابق وافق زعماء «الناتو» على زيادة وجودهم العسكري على الحــدود الروســـية ونشــــر 5000 جندي أطلسي في دول البلطيق، وبولندا، وبلغــــاريا ورومـــانيا. وفي الشهر الماضي أيضاً أنهى الأميركيون بناء قاعدتهم الجـــوية الثانية في شمال شرق سوريا.

تمثل سوريا إذاً واحدةً من الساحات التي يظهر فيها صراع الإرادات الروسي الأطلسي بأوضح صوره. وهنا قد يكون تفسير التقدم العسكري الأخير في شمال حلب مؤشراً على تغيير في الموقف الأميركي تفاؤلاً مبالغاً فيه للغاية. فضمن الصورة الأوسع يبدو من الواضح أن الصراع مستمر ومتصاعد، لكن نتائجه وتفاصيله تبقى أبعد من أن تحسم مسبقاً. وهنا يجب ألا نقع في فخ الربط الحتمي بين الأحداث واعتبار نتائج الميدان مقدرةً مسبقاً. فبرغم كل شيء، يمكن لبعض المواجهات في الميدان أن تُحسم لأسباب عسكرية بحتة، وهذا ما حصل في حلب مؤخراً.

البعث ميديا || صحيفة السفير / محمد صالح الفتيح